طبقات الأمة. وهكذا تروج بضاعتنا التي نأكل منها الخبز والملح، ومن يدري، فقد ينتهي بنا هذا لأن نصبح قادرين على التنعم بأشياء غير الخبز والملح - مما نجهله الآن كل الجهل.
إن واجب الجغرافيا - يا أبا رجاء - هو أن تدنى البعيد وأن تقرب أطراف العالم بعضها من بعض، وأن تعلمك وأمثالك كيف تتخذون الناس كلهم سكناً، وكيف تجعلون الأرض كلها داراً.
نريد لكم اليسر والسعة، ولا نريد لكم العسر والضيق، نريد أن يطلق سراح الكتاب، وألا يتقيدوا بسلاسل المكان وأغلال الزمان، فتنطلق أرواحهم في العالم الفسيح، وتشرب من كأس الحرية حتى تروى وتشفى.
أن الجغرافيا هي علم الكون، علم الوجود، ولهذا كانت أهم ما في الوجود من علم. ولهذا وجب على من كان مثلك - مهنته نشر الثقافة - ألا يقول كلمة واحدة تثبط همة المشتغلين بهذا العلم العظيم. .
لهذا أريد منك أن ترجع إلى الحق، وأن تعترف معي بأن (وراء الغمام) و (الملاح التائه) وما شابه ذلك عنوانات بديعة، وأنه لا يضير الكاتب الذي يستخدم مثل هذه العنوانات أن ليس في سماء القاهرة غمام كثير - مع أن في سماء الإسكندرية من الغمام ما يكفي لألف عنوان! - كذلك لا ضير على الكاتب أن يتحدث عن البراكين وجبال النار، والزلازل، وأمثال تلك الظاهرات التي لا نحسها في مصر إلا نادراً. ذلك لأننا معشر الجغرافيين نريد أن نبصر ثمار ما بذرناه من علم ونراها تؤتي أكلها في كل مكان.
هذا ما عنّ لي أن أقوله تأنيباً لك على أن حاولت أن تقطع عيشنا في هذا البلد الأمين. وأريد أن أزيد في التنكيل بك بأن أرسل إليك قصيدة كنت نظمتها في وصف (نهر في جبال الألب) فهي كما ترى لم تكتب عن نهر النيل. فإذا أردت أن تلومني في هذا، وليس هذا على جرأتك بعزيز - فاذكر أنني كتبت عن نهر النيل كتاباً كاملاً؛ قد أتعبني في النهار وأسهرني الليل أعواماً طوالاً. أما النهر في جبال الألب فما كان له مني سوى جلسة قصيرة جلستها بجانبه أراقب مجراه، وأصغي إلى خريره وزئيره. لم يسهد له طرف، ولم يدمع له جفن.