من الطفولة حتى الشباب في مراحل التعليمي الثلاث، وأنا أسعد بأستاذيته - رحمه الله - وقد كان لهذه الصلة في نفسي منذ نشأت أعمق الأثر، وكنت أشعر دائماً أن له عليّ فضل التوجيه وقد كان إكباري له وإعجابي بعلمه وورعه، وسمو نفسه وأسلوب تفكيره يحملني على أن أحاول اتخاذه قدوة صالحة.
فما عرفت أدق منه في سبر أغوار المشاكل العلمية، في يسر وسهولة، ولا أحرص منه على شعائر الدين والتقوى، في نقاوة وورع، ولا أسبق لمعاني الفضيلة، في جلال وجمال وروعة
ما عرفت من هو أوفر حظاً منه في هذا كله، نأى بجانبه عن كل ما يشوب كرامة العالم، فأحاط نفسه بسور منيع حال بينه وبين الزلفى، والعمل لغير وجه الله، في مراقبة شديدة لواجبه وضميره.
عف عن المادة في مختلف مواطنها، فما طلبها ولا سعى إليها، وقد كانت سبلها ميسرة معروفة لمن يلتمس حطام الدنيا الفانية.
كرس حياته - رضي الله عنه - لاستنباط أسرار الشريعة السمحاء، والكشف عن دقائقها ومميزاتها وذخائرها، وما تمتاز به عن سائر الشرائع، فكان يعني بالمقابلات الطريفة والمقارنات الدقيقة بين المذاهب والآراء، والعقائد وطرق التدليل والتفسير والتأويل التي تنطوي عليها مباحث علماء الإسلام، ثم بين هذه وغيرها في الديانات الأخرى، كل ذلك في تبسيط جم للمعقد، وتذليل للصعب العسير من نظريات الشريعة، فما كنا نلمح أثراً للجفاف الذي يبعدنا عن فهمها، ونحن في هذه السن الباكرة التي لا تقوى على استساغه هذه المقارنات المستفيضة الشاملة.
شغفنا بالبحث والقراءة، وسكنا إلى هذه الدراسة على ما فيها من تشعب واسترسال بفضل معونة أستاذنا وتوجيهه - أثابه الله - وحبب إلينا درسه، فما أذكر أنني تخلفت عنه يوماً، ولا كانت لي رغبة ملحة ولهفة في الإصغاء لأستاذ سواه.
طراز نادر بين الأساتذة والعلماء ورجال الدين، ولعله كان المثل الأعلى والنموذج النادر بين هؤلاء جميعاً.