رثى المازني زوجته فكأنما كان يرثي نفسه أو بضعة منه، لا مجرد زوجة، ويناجيها في تفجع مرير (وا أسفي عليك، لا بل على، لم يبق إلا طيف يعتاد ذاكرتي. لا أثر على الرمال الخائنة التي كنا نمشي فوقها ونرقد عليها ونملأ أكفنا منها، وندع ذراتها تتساقط خيوطاً من بين فروج أصابعنا. ولقد نسيتك النجوم التي كنت تحبينها وتشيرين إليها ببنانك وتعدينها، ولم تستوحش خلو مكانك إلى جانبي تحت عيونها المتلامحة، بل هي لم تذكرك حتى يقال نسيتك. والقمر، الذي كنت تأنسين بطلعته وتخالسينه النظر من بين خصل شعرك الدجوجي المرخى على وجهك تحت ضوئه الفضي اللين، لا يزال يبتسم كالعهد به ابتسامة السخر والسهوم كأنه لم يفتقدك. كلا ما من شيء فيما أرى يحس افتقادك، كأنك لم تحبي وجه هذه الطبيعة الخامدة الحس الميتة المشاعر، التي تروعنا ولا تحفلنا، وتنبينا ولا تذكرنا. . وماذا أنا الآن؟ حي من الأحياء لا يدري الناس أني مت منذ سنين، وأني قبر متحرك كشمشون ملتون، أو جثة لم تجد من يدفنها، أو صورة باهتة لما كنته في حياتي. ولقد كنت كما يتوهمني الناس الآن، حياً تتدفق الدماء الحارة في عروقي، فلما تأملت مصائر الخلق ركدت الدماء قليلاً وابتردت، ومات مني شيء. ثم قضى ولدانا فأحسست دبيب الغناء، وضحى ظلك فتساقطت أزهار الحياة بين يدي وذوت نوارات آمالي تحت عيني، وإذا كفي ملأي بميت الزهر مما قطفت قدماً).
وكان يتخذ بيته في ذلك الحين على تخوم العالمين أو على حدود الأبد، ويستريح إلى قضاء لياليه في الصحراء حيث يلفه الظلام في شملته، ويرقد على الرمال كما كان يفعل مع زوجته، ويجعل عينه قيد السماء، يراعي النجوم ويناجيها، وتذهله خواطره السود عن نفسه وما حوله.