وإنه لغارق في لجج هذه الخواطر ذات ليلة - والجو ساج شاحب بدره - (إذا بفتاة ورد تعدو إلي وتناديني باسمي، فأفقت ورددت إلى الدنيا ولكن كما يفيق المغشي عليه؛ يتلفت في كل ناحية ويسأل أين هو؟ ويعجب لنفسه ولمن حوله وبذهنه بعض الكلال، وعلى عينيه كالغشاوة. ثم اعتدلت فوق الرمل ونبهت حواسي ومداركي بجهد، وقلت: من عسى تكونين يا فتاتي؟ قالت: لقد ذهبت أملأ جرتي من بيتكم هذا كعادتي كل ليلة بعد أن تنقطع الرجل، ألم ترني قبل الليلة؟ قلت: نعم ولكني لم أذكرها. فمضت في كلامها وهي تلهث وتلقي علي الأسئلة ولا تنتظر جوابها: إني كل ليلة أتسلل إلى البيت وجرتي تحت ملاءتي وأدفع الباب برفق. لماذا لا توصد بابك؟ ألا تخشى سارقاً؟ ولكن لو كنت توصده لتعذر علي أحياناً الدخول، ولكنت أخجل أن أزعجكم كل ليلة من أجل جرة ماء! وبعد أن أدخل وأضع جرتي في الحوض أتركها تمتلئ على مهل وأرود الحديقة، ولكني والله لم أقطف منها شيئاً، وإن كنت أحب ثمر الحناء. وقد انتهرتني ليلة وأنا أتمشى تحسبني أريد أن أسرق، فخفت وبكيت في الطريق وقلت كيف يسيء الظن بي. نعم، كيف أسأت الظن بي؟ فقلت: لم أكن أعرفك يا فتاتي فلا تغضبي، وخذي ما شئت من الحديقة فما بها ما يستحق أن يضن به المرء. فانحنت إلي وأنا قاعد على الرمل ووضعت راحتيها على ركبتيها وأكبت بوجهها على وجهي وحدقت في عيني وقالت بلهجة العاتب المحاسب: كيف لم تكن تعرفني؟ ألست أحييك كلما دخلت ورأيتك جالساً في ذلك الركن المظلم تحت الكرمة؟ فتناولت وجهها بين كفي وجذبته إلي في رفق وقبلتها، إذ لم يكن ثمة بد من ذلك، وقلت: لا تغضبي يا فتاتي، وإذا كنت تريدين ثمر الحناء فاجنيه كله، أو العنب فعناقيده لك، ولكن خبريني من ذلك على مكاني؟ ونهضت، فعادت إلى التحدث وقالت: من دلني؟ يا له من سؤال! كأن الدنيا كلها لا تعرف، ولقد وجدت بابك الليلة موصداً فعلمت أنك خرجت إلى هنا فجئت أبحث عنك لتفتحه لي، فإني أستحيي أن أقرعه قلت: أحسنت، فتعالي إلى هذه الصخرة. قالت: لماذا؟ قلت: لتعدي لي النجوم؟ قالت: أو هذا ممكن؟ إنها كثيرة جداً جداً! قلت: نعم، ولكنك كلما عددت نجماً وأسرت إليه بإصبعك اختفى واستسر حتى لا يبقى في السماء ولا الأرض إلا عيناك! قالت: أصحيح هذا؟ وجعلت تثب وتصفق حتى لخلتها إحدى بنات الليل. ومضينا إلى الصخرة وجلست وأجلستها على ركبتي وطوقتها بذراعي،