لم يكن الفرنسيون يقدرون تمام التقدير الحركة الوطنية في مراكش قبل الحرب الأخيرة. كانوا ينظرون إليها على أنها أحلام مزخرفة تتراءى لجماعة من الشبان بعيدة كل البعد عن الوقائع والمحسوسات؛ وكانوا يقولون إن هناك هوة سحيقة بين هذه الجماعة من الشبان وبين بقية الشعب، ولذلك ظلت الحركة الوطنية في جزر ومد إلى أن كانت سنة ١٩٣٧ حينما اغتالت السلطة الفرنسية هذه الحركة وشردت زعماءها في المنافي والسجون.
ولكن الحركة الوطنية في مراكش كانت قد آتت ثمارها في نفوس الشعب قبل هذا التاريخ، ولذلك فإن مظهر الشلل الذي أصابها بعد ذلك لم يكن له أي اتصال بالجوهر والصميم. كان من العوارض التي تنزل بالأمم عندما تصاب بالنكبات القاصمة، فتذهلها فترة من الزمن عن أيمانها، ولكنها لا تخنق فيها نبض الحياة متى كان للحياة نبض في أعماقها. حتى إذا استأنس الشعب بالنكبة وألفها، بدأ إيمانه يستيقظ في شكل همس ثم في شكل صوت ثم في شكل جلجلة مدوية.
وهذا ما حدث في مراكش بالضبط: تظاهر ضدها الموت والجوع والحرب والاضطهاد، وبالرغم من ذلك استطاعت أن تواصل كفاحها السياسي، وأن تتقبل كل التهم التي وجهت إليها كما تتقبل العذراء البريئة تهم الإفك والبهتان. بل استطاعت في خلال الحرب ذاتها أن تخوض في صمت وجلد، وهي بعيدة كل البعد عن الضمير العالمي، معركة استقلالية دامية، وجه الفرنسيون خلالها نحو قلب هذه البلاد الباسلة كل ما يملكون من حديد ونار، دون أن يستطيعوا إخماد النبض فيه. وإذن فالمسألة ليست مسألة شبيبة حالمة، وإنما هي مسألة نظام بال تقادم عليه الدهور وتزعزع. إنها الأخطاء الفرنسية بدأت تؤتي ثمارها الكريهة المسمومة. إنه الشعور بالذات في أمة لم تصمم على الاستمساك بالحياة فحسب، بل صممت أيضاً على أن تعيش حياة حرة كريمة تختلف كل الاختلاف عن الحياة التي عرفتها منذ ثلث قرن مضى في ظل الحماية الفرنسية.
ظلت فرنسا طيلة مدة الحرب تقريباً مهددة في كيانها، فشككها ذلك في تلك السياسة العتيقة التي كانت تسير عليها في الشمال الأفريقي، وظهر لأول مرة في الأحزاب الفرنسية من