عنيت منذ أعوام بدراسة طائفة من أقطاب الرواية التاريخية عن مصر الإسلامية ودرس آثارهم، ما دثر منها وما تبقى؛ وكتبت بالفعل عدة فصول عن ابن عبد الحكم والكندي وابن زولاق استقصيت فيها حياتهم وآثارهم؛ ثم تناولت بعد ذلك عدة أخرى من مؤرخي مصر الإسلامية في عصور متأخرة، مثل النويري والمقريزي وابن تغري بردي والسخاوي وابن إياس؛ وقصدي بذلك أن أترجم لمؤرخي مصر الإسلامية كلما سنحت الفرص، وأن أستوعب مصادر التاريخ المصري
والآن نستأنف هذا الدرس، ونخصص هذا الفصل لأستاذ من أساتذة الرواية المصرية، هو أبو عبد الله القضاعي، وهو مؤرخ وفقيه وسياسي معاً، عاش في فترة من أدق الفترات التي جازتها مصر الاسلامية، وشهد الدولة الفاطمية في ذروة القوة والعظمة، ثم شهدها تنحدر سراعاً إلى دور من الانحلال والتفكك يكاد يؤذن بذهابها، وشهد محنة من أشنع المحن التي عانتها مصر الإسلامية، وانتدب أيام المحنة ليكون سفيراً لأمته في طلب العون والغوث؛ وكتب عن مصر الإسلامية وعن حوادث عصره آثاراً هامة، لم تصل للأسف كلها الينا، ولكن ما انتهى إلينا منها على يد المؤرخين المتأخرين يدل على أهميتها وقيمتها
وهو القاضي أبو عبد الله بن سلامة بن جعفر القضاعي الشافعي المصري؛ ولد بمصر في أواخر القرن الرابع الهجري، في عصر الحاكم بأمر الله، ودرس الحديث، والفقه على مذهب الشافعي وبرع فيه، وبرز في التاريخ والأدب؛ وبدأ حياته العامة بتولي القضاء، ولبث يليه حيناً بالنيابة كلما خلا منصب قاضي القضاة بالوفاة أو العزل، ثم تولى التوقيع (أو العلامة) لأبي القاسم الجرجائي المعروف بالقطع وزير الخليفة الظاهر لاعزاز الله ابن الحاكم بأمر الله، ثم وزير ولده المستنصر بالله من بعده. ولما توفي الوزير أبو القاسم (سنة ٤٣٦هـ) تقلب القضاعي في عدة وظائف ومهام رسمية؛ وكان المستنصر بالله يقربه ويثق