بحكمته وحسن تصريفه للأمور؛ وتجول القضاعي ودرس في بغداد ومكة والشام؛ ووقف على أحوال الدول الإسلامية يومئذ، وجرى السياسة في القصور المختلفة، وتبوأ في البلاط المصري ذروة الثقة والنفوذ. ثم جاء ظرف عهد فيه إلى القضاعي بمهمة سياسية دقيقة. ذلك أن الأزمات والفتن الداخلية التي توالت على مصر في عهد المستنصر بالله لبثت تتفاقم حتى انتهت بوقوع الغلاء والقحط؛ ثم كانت الطامة الكبرى بوقوع الوباء في سنة ٤٤٦ هـ ١٠٥٣م؛ وعانت مصر يومئذ آلاماً ومحناً مروعة. وتعرف هذه النكبة في تاريخ مصر الإسلامية (بالشدة العظمى). وقد بدأت كالعادة بالغلاء وندرة الأقوات، وكان بين مصر والدولة البيزنطية يومئذ علائق حسنة، فأرسل المستنصر بالله في سنة ٤٤٦ هـ إلى إمبراطور قسطنطينية، وهو يومئذ قسطنطين السابع، أن يمد يده بالغلال والمؤن؛ وكانت الدولة البيزنطية تواجه يومئذ خطر السلاجقة الذين أشرفوا على حدودها الشرقية وعاثوا في آسا الصغرى؛ وكانت ترى أن تقوي صداقتها وتحالفها مع مصر التي كانت تخشى غزواتها من الجنوب ومن البحر؛ فاستجاب قسطنطين لدعوة المستنصر، وتم الاتفاق على أن ترسل المؤن من قسطنطينية إلى مصر، وأعدت بالفعل لتلك الغاية مقادير وافرة من الغلال تقدرها الرواية الإسلامية بأربعمائة ألف أردب ولكن قسطنطين السابع توفي قبل تنفيذ الاتفاق، وخلفه على عرش قسطنطينية الإمبراطورة تيودورا، واشترطت لإرسال المؤن إلى مصر شروطاً أباها الستنصر، ومنها أن يمدها بالجند لمحاربة السلاجقة؛ فانقطعت المفاوضات بين الفريقين، وسير المستنصر جيوشه إلى الحدود الشمالية، ونشبت بين الفريقين معارك انتصر فيها المصريون بادئ ذي بدء. ولكن الأسطول البيزنطي غزا مياه الشام، وهزم المصريين في عدة مواقع؛ فكف المستنصر عن متابعة الحرب، وعاد إلى المهادنة والمفاوضة، وأرسل إلى بلاط قسطنطينية سفيراً مختاراً يسعى إلى عقد الصلح وتنظيم العلائق بين الفريقين
وكان ذلك السفير المصري إلى بلاط القياصرة، هو أبو عبد الله القضاعي الذي يحبوه المستنصر بثقته وتقديره. فقصد القضاعي إلى بيزنطية عن طريق الشام؛ وتضع الرواية الإسلامية تاريخ هذه السفارة الشهيرة في سنة (٤٤٦ هـ ١٠٥٥م) ويقع هذا التاريخ في عصر الإمبراطورة تيودورا التي جلست على العرش سنة ١٥٤٥م وتوفيت في أغسطس