على الضفة اليمنى من (بحر شبين) كان يقوم القصر الأبيض، كما يسميه أهل القرية والقرى المجاورة؛ وهو بيت مبني على طراز بيوت المدن، تفصل بينه وبين الطريق العام حديقة كبيرة تحنو على حوافيها أشجار ذات ظلال وأريج.
في هذا القصر كان يقيم (عبد الرحمن بك) وهو ضابط من ضباط الجيش القدماء، له ماض مجيد ووقائع مشهورة؛ فلما أسَنَّ وقعَد، هجر المدينة إلى الريف الهادئ، فاتخذ له بيتاً ومزرعة، وأقام حيث بنى القصر البيض في عز وجاه ومتعة.
وكان له ولد واحد أتاه على حين كبرة وهرم، فنشأ في الريف نشأة أهله، وتشرَّب من طباعهم وعاداتهم المأثورة؛ فلما بلغ السابعة بعث به أبوه إلى المدينة؛ فشدا من العلم ما شدا، ثم عاد ليقيم بجانب أبيه ويقوم على شئون مزرعته.
. . . لم يكن في القرية كلها، وفي القرى المجاورة، فتّى أعزُّ على أهله وعلى جيرانه من (عايد) بن عبد الرحمن بك؛ فإنه لفتى ريّان العود، ناضر الشباب، فيه دمائه الحَضَريَّ المتبَدِّي وشهامة القروي المتحِّضر، وإنه لوحيد أبيه وصاحب أمرِه، وأبوة سيِّد القرية العزيز الممتَّع.
وكان (عابد) في السابعة عشرة من عمره حين التقى بأمينة عيناً لعين، فوقع من نفسها ووقعتْ من نفسه؛ وكان جالساً في خُصٍّ إلى جانب من مزرعة أبيه حين مرَّت بن لأول مرة فأتبعها عينيه مأخوذاً، ومضت على وجهها مغضية من حياء، وهي تتمتم بالتحية. وابتدأ للحب تاريخ. . .
لم يكن أبو (أمينة) من ضباط الجيش القدماء؛ نعم، ولا كان له تاريخ ووقائع يباهي بها ويفتخر؛ ولا كان يملك قصراً ومزرعة؛ ولكن أمينة على ذلك قد استطاعت أن تغلب الفتى على نفسه وتملك قِيادَه. . .