ولما التقيا بعدُ على غفلة من العيون في ظل شجرة الصفصاف، والشمس تنفض آخر أشعتها على أوراق الشجر حمراء ملتهبة، نظر إليها ونظرتْ إليه، وكانت شفتها تختلج وفي عينيها عبرة؛ ودنا منها ومد إليها يداً وامتدَّت يداها إليه ترُدُّه، وهمستْ:(عابد!) وبرقت قطراتُ الدمع بين أهدابها؛ وتحدثتْ عينان إلى عينين؟ وأرخى الليل سدوله وما تزال أمينة في مجلسها وما يزال عابد؛ ثم نهضا فاتخذا طريقهما إلى القرية صامتين يتبادلان لمسة باليد كلما همَّتْ أن تجتاز قناة في طريقهما بين الحقول، يهم أن يعنها وتهم أن تستعينه؛ ثم افترقا قبل أن يبلغا أول أبيات القرية وما سألها ولا أجابت! وأوت أمينة إلى منامتها بجانب أخيها الصغير في دار أبيها يراوح القلق بين جنبيها، واتخذ عابد مقعده إلى جانب النافذة في غرفته من القصر الأبيض، يسرِّح عينيه في الفضاء المظلم الذي يغلّف دور القرويين ويلفُّها في صمت موحش؛ وأشرق الصبح وما تزال وما يزال!
كان عابد يعلم من نفسه ما يعلم الناس، أنه سيِّد نفسه، وأنه من المنزلة عند أبيه بحيث يحق له أن يتمنى وأن ينال؛ ولكنه إلى ذلك كان يشعر في أعماقه أن القدر يتربص به ليحول بينه وبين أعز أمانيه؛ أتراه يستطيع أن يقول ويكشف عن ذات نفسه؟ وماذا يقول أبوه ويقول الناس حين يصارحهم أنه يريد أن يتزوج أمينة؟
أمينة. . .؟ من تكون ومن يكون؟ هل هي إلا فتاة من فتيات يتمنين لو كن من خدم القصر الأبيض؟ نعم وإن أباها لواحد من عشرات يعيشون في ظل القصر الأبيض خَوَلاً وبطانة، إنه لسيد من يليه من الفلاحين ولكنه عبد وسيده، وإنه ليملك داراً وأفدنة كاسبة ولكنه مملوك؛ لأن القرية كلها ليس فيها إلا سيد واحد ومالك واحد. . .
كذلك كان عابد يفكر حين كانت أمينة راقدة في فراشها تفكر؛ وبكى الفتى حين تبين موقفه، وتمنى لو كان واحداً من سواد أهل القرية وله رأيه وإرادته، ولم يكن السيد العاجز. وبكت الفتاة حين تبينت موقفها وأعجزها أن تتمنى!
وقالت له:(سيدي. . .!)
وشد على يديها فلم يدعها تتمم، وقال:(أمينة. . .! ناديني باسمي يا حبيبتي! لست. . .)
ومال رأس على كتف، وامتزح الدمع بالدمع، وَتَرَوَّتْ الشفاهُ الظمأى، وتلاحقت أنفاس مبهورة؛ وهمت أن تقول، وهمّ أن يجيب، وماتت الكلمات على شفاه ترتجف، وتساءل قلب