ليست هي دنيانا، فما ينبغي أن يكون هذا الأدب منها، وليست هي عالمنا، فما لهذا الأدب أن يدخل فيه، وإنما هي طبيعة الأدب تأبى أن يكون من دنيانا في شيء، فان أكثر دنيانا قبيح، وأكثر الأدب جميل، وعماد دنيانا الحقيقة وعماد دنيا الأدب الخيال، والعقل في دنيانا عنصرها الأكبر، والعاطفة في دنيا الأدب عنصرها الأول، والمرء في دنياه يرى بعيني رأسه، ويرى في دنيا الأدب بعين قلبه، وهو في الدنيا مادي، قد يمسك بالزهرة فيقطعها في غير رحمة التماس عبيرها، فيظلّ به حتى ينفذ، ثم يلقيها كأن لم تبهره لحظة بجمالها، ولم تنعشه برهة بأريجها، وهو في دنيا الأدب روحي، إذا أمسك بالزهرة فإنما يمسها في رفق، وإذا التمس شذاها فإنما يفعل في حذر واحتياط، حتى إذا أعجبه عبيرها لم يقتطفها ولم يلقها، وإنما تراه يستخلص من عبيرها الطيب بيتاً ينظمه، أو قصيدة ينشئها، أو سطوراً يكتبها، وتراه يغوص في قرار المعاني ويصعد إلى عنان اللغة ليسجل للخالق حسن الصنعة ودقة الخلق وجمال التكوين، وتراه يوفي الزهرة حقها من الإعجاب والإطراء، ويبادلها حسنا بحسن ومتعة بمتعة. والمرء في دنياه يتكلم فيما يشاء بما يشاء، وهو في دنيا أدبه لا يتكلم إلا فيما حرك شعوره وهز عاطفته، فإذافعل فباللفظ المختار وبالمعنى المنتقى، والمرء في دنياه حين يتكلم لا يكاد يقع قوله إلا من نفوس قليلة مهما تكثر فلن تخرج عن الحصر، ولن تفوق العد، وهو في دنيا الأدب يتكلم فيلتقي بعواطف الجموع ويضرب على أوتار القلوب، وقد ينتقل قوله من لغة إلى لغة وينتشر حديثه من لسان إلى لسان، فيفنى هو وما قال باق على الدهر خالد على الأيام، وقد يظل المرء في دنياه من غير صاحب، وقوله في دنيا الأدب يلقى الصحاب في كل مكان، ويتخذ سميراً في الجماعات أو خليلاً في الوحشة، أو مؤنساً في الوحدة، يصادف من كل قلب مبتغاه، ويلقي عند كل امرئ قبولاً، ويقع من كل نفس موقع البرء من السقام
ودنيانا محدودة وان ترامت حدودها، مقيدة وان اتسعت قيودها، ودنيا الأدب لا تعرف الحد ولا تعرف القيد، فالأدب يعيش في كل مكان ويحيا في كل زمان، يتناول كل شيء، وقد