يتخذ لنفسه موضوعا من لاشيء، وليس توخي الجمال فيه ولا التزام أوجه الحسن في فنونه قيداً له ولا عيباً في دنياه، وإنما هو الجمال طبيعته وعنصره، ما أن يفقده حتى يخرج من دائرة الأدب إلى دائرة الكلام البحت والحديث الصرف. فالشعر إن فقد الجمال كان نظما فحسب، لا هو بالشعر ولا هو بالنثر، قد وقف بين الصناعتين لا يدري أهو من هذه أم هو من تلك، والنثر إن فقد طلاء البلاغة لم يكن من الفن في شيء، وكما تغلو الأشياء في دنيانا وترخص، يغلو الأدب في دنياه، وتنحط قيمته تبعا لمقدار الجمال فيه، وأكثر موازين دنيانا الكم، وميزان دنيا الأدب الكيف.
على أن دنيا الأدب وان كانت جمالاً كلها فليست نعيما كلها، وان كانت إعجابا كلها فليست تخلو من العجب، فقد أقام البؤس فيها إلى جانب الجمال، وسكنت الفاقة فيها إلى جانب الحسن، وكثيراً ما تحالفا على غير فكاك، وتوافقا على غير خلاف، شأن دنيا الأدب في ذلك شأن دنيانا، فانك لتجد فيها الوجه الجميل في المسكن الذليل، وغالباً ما يلقاك الشرف الرفيع في الكوخ الحقير، وكثيراً ما تحل السعادة حيث ترق الحال، ويقيم الهناء حيث يحل الفقر.
ودنيا الأدب لا آخره بعدها، ولا إمهال فيها، وإنما يلقي صاحب الأدب فيها حسابه سريعاً فيجزى به أو يعاقب عليه، فما هو إلا أن يظهر أهل دنياه على ما أتى من عمل فني حتى يتولاه النقاد من قومه بالحساب، يحاسبونه حسابا فيه يسر حيناً، وكله عسر أحياناً، وحساب أهل الأدب على عسره ليس يخلو من عجب، فلا الخير فيه خير بالاجماع، ولا الشر فيه بالإجماع، وإنما الخير عند زيد شرٌّ لدى عمرو، والشر يراه هذا خيراً، والخير في عرف ذاك شر، قد تفاوتت الموازين، وتباينت المكاييل، وليت شعري متى يشاء ملائكة النقد أن يكون لدنيا الأدب ميزان يزن به الجميع، وكيل يكيل به الجميع. فقد خلق الناقدون وكل معه ميزانه، وكل في يده كيله، فاختلفت أحكامهم على العمل الفني الواحد، وتعددت أقوالهم في إنتاج الأديب الواحد، ولعل دنيا الأدب لم تظلم صاحب الأدب حين أباح له حرية الدفاع عن آثاره الأدبية والرد على محاسبيه، والتماس الحق لجانبه. ومن غريب دنيا الأدب أنها تبيح حساب المرء حياً وميتاً، فيتناول النقاد سيرته بالتحليل ويتولون حياته بالتمحيص، ويظهرون الناس على أقواله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وانك لتجد الشاعر أو الناثر قد