يستهل شوبنهاور (١٧٨٨ - ١٨٦٠) أثره الرئيسي (العالم كإرادٍ وفكرة) بقوله: (العالم فكرتي). ولأجل أن يفهم معنى هذا القول على وجهه الصحيح يحسن بنا أن نقدم له بكلمة موجزة في نظرية المعرفة عند فيلسوفين، أحدهما أيرلندي هو بركلي (١٦٨٥ - ١٧٥٣)، والآخر ألماني هو كانت (١٧٢٤ - ١٨٠٤).
ونظرية الأول تتلخص في عبارته المشهورة:(وجود شيء أن يدرك) أو (الوجود هو الإدراك). فقد كان (لوك) ميز بين (الكيفيات الأولية) و (الكيفيات الثانوية) للموضوعات الخارجية. فالأولى، كالامتداد والشكل والحركة، توجد في الأشياء أنفسها بصرف النظر عن العقل. أما الثانية، كالألوان والأصوات والروائح، فلا وجود لها خارج الحس والعقل المدرك. وقضى بذلك على فكرة (الجوهر المادي) وجعل العقل هو المحل أو الحامل للموضوعات، وكل ما تتصف به، من امتداد وشكل وحركة وزمان وأصوات وأضواء وألوان. فكل هذه الأمور لا يمكن أن تقوم، أو تتصور، مستقلة عن الذات المدركة؛ ومن هنا كان من المناسب تماماً أن تدعى (أفكارا). ويقول بركلي هنا: إن أحداً لا ينازع في إن ذكرياتنا وتصوراتنا وتخيلاتنا إنما توجد في الذهن، ولا يمكن أن توجد بمعزل عنه؛ ولكن لا يقل عن هذا بداهة أن الاحساسات أي (الفكرات) المطبوعة على الحس، على اختلاف مركباتها، أي الموضوعات الخارجية المركبة منها، لا يمكن أن توجد إلا في ذهنٍ مدركٍ. وتتضح هذه الحقيقة كل الوضوح حين نتدبر معنى لفظة (الوجود) أو (الموجود) كما تطلقان على موضوعات الحس. فما عساي أعني حين أقول إن هذه المائدة موجودة؟ أتراني أعني شيئاً غير إني أبصرها وأحسها؟ وإذا كنت خارج الغرفة، وقلت إن المائدة موجودة، أتراني أعني شيئاً غير أنني لو كنت في الغرفة إذن لأبصرت بها، أو إن هناك ذهناً آخر يدركها؟ - لقد كانت ثمت رائحة: هذا معناه أني مشممتها؛ كان ثمت لون أو شكل، أي أني أدركته بالبصر أو اللمس. هذا، كما يقول بركلي، هو كل ما يمكن أن يفهم من أمثال هذه التعبيرات. أما القول بوجود الموضوعات المادية وجوداً مطلقاً فقول متهافت،