غير مفهوم أبداً. فإن وجود الأشياء أن تدرك ولا يمكن أن يكون لها أي وجودٍ خارج الأذهان التي تدركها.
ومن هنا فالمعرفة تتألف من عنصرين مختلفين، هما الموضوع أو الفكرة المعروفة، أو الذات العارفة. وليس يوجد إلا المدرَك أو المدرِك.
ولنلاحظ هنا إن كون الموضوعات المحسوسة فكراتٍ في العقل لا ينفي ما بينها وبين الأخيلة والتصورات من فروق هامة؛ كما إن إنكار (الجوهر) المادي لا يعني إنكار واقعية العالم المادي، وإنما معناه إنكار أن تكون هذه الواقعية مستقلةً عن العقل، وأن يكون للموضوع المادي وجود مطلق لا يتوقف على الذات المدركة.
ونظرية شوبنهاور في العالم الخارجي لا تختلف في جوهرها عن نظرية الأسقف العبقري، ومع ذلك فإنه يسلك إلى نظرية المعرفة طريقة (كانت)، ويستعير من مؤسس (النقد) لغته وأسلوب تفكيره. فلا مفر إذن من إلقاء نظرة، ولو عامة خاطفة، على نتائج نقد العقل الخالص (النظري)، بمقدار ما تتعلق هذه النتائج بموضوعنا.
لقد وضع (كانت) حداً حاسماً بين الشيء في ذاته، أو العالم المعقول، وبين الظواهر، أو العالم المحسوس. فالأول خارج المكان والزمان، وخارج نطاق المعرفة الإنسانية. أما الثاني فزماني مكاني بالضرورة، وداخل في نطاق المعرفة، والمعرفة العلمية مقصورة عليه، لا يمكن أن تتخطاه، فلا علم إلا العلم (بالظاهر) وقوانينه. وإنه لعلم صحيح ضروري، لهذا السبب: وهو إن العقل نفسه هو الذي يبدع عالم الظواهر، أو يشارك على الأقل في إبداعه، ويستن له قوانينه، ويخلع عليه شكوله الثابتة.
فالعالم المحسوس يقوم بالضرورة في إطارين: هما المكان والزمان. ولكن هذين الإطارين لا يرجعان إلى الأشياء في أنفسها، وإنما هما (صورتنا خالصتان) لحساسية العقل: ميدان فطريان قبليان، لا وجود لهما خارج الذات الحساسة المدركة. إنهما في الواقع (إسلوبان) أو (وسيلتان) لإدراكنا الأشياء، فلا سبيل إلى إدراك هذه إلا إذا دخل في المكان والزمان، وانطبعت بهذا الطابع العقلي الأجنبي عنها، وتحولت بذلك عن طبيعتها الأصلية، إنهما شرطا إمكان الإدراك والمعرفة؛ وبما إن معرفة الموضوعات هي ما ندعوه (بالتجربة) فالمكان والزمان إذن شرطاً إمكان التجربة، وعليهما تتوقف كل تجربة، واقعة أو ممكنة،