للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[في الأدب الإنجليزي]

دراسة شاعر قصصي

للأستاذ أحمد الطاهر

لنتخلف عن قافلة الزمان، ولنرجع إلى الوراء خمسة قرون أو ستة، ونحط الرحال في لندن، ونتخير أحد فنادقها، وليكن فندق (تابارد) في حي (سوث وارك). وما كنا لنهبط لندن في غير الربيع، فالأشجار وارقة غيناء تلتف أفنانها وتتلاقى خصلاتها وترف ظلالها، وهي لا تزال ملمة لم يحن وقت أثمارها وإن بكر بعضها، فما يزال الثمر أكماماً ونوراً، والطير يدوي في الأرض ويدوم في السماء، ثم يدف ولا يزال يواتر ذلك أبابيل ووحداناً تشدو بين إرنان شجي، وهزج دقيق، وترجيع شهي

يطرأ على الفندق جماعات من الناس مثنى وثلاث، يلقون عصا التسيار، وقد بدا على وجوههم أن تحلل بهم السفر فأعياهم: فيهم الرجال الأشداء، وفيهم النساء الضعيفات. ولكن لا يكاد أن يلتئم جمعهم حتى يشيع في وجوههم البشر، وتنطق قسماتهم بالسرور، ثم تغريهم كثرتهم فتنسيهم النصب والتعب، ثم يغرقون في اللهو والعبث؛ إن رأيتهم حسبتهم أطفالا قد استخفهم الفارح وازدهاهم الطرب

هذا خليط من الناس فيهم الطغام والهباء، وفيهم السادة والأحباء. أما هذا الرجل الأنيق البدين فهو أحد الفرسان، كمي جسور، مغوار مشهور؛ وأما هذا الذي وراءه فهو سيد من سادة الريف لعله صاحب القرية أو ذو الشأن فيها؛ وهذا الزري الضامر النحيف قس قد قنع بالكتاب عن فاخر الثياب، يلبس الأسمال والأخلاق، ويعلم الحكمة والأخلاق؛ وهذا الذي يرفل في الديباج الأحمر طبيب يلهج لسانه بالحمد والثناء، حين يذكر أيام الطاعون والوباء، إذا امتحنت المدينة عامين تعاون فيهما على الناس الطاعون والطبيب: ذلك يحصد الأرواح، وهذا يجمع الأرباح. وهذه الفتاة الناعمة الرقيقة راهبة من الرهبان، تتكلم الفرنسية بلهجة ظريفة سليمة، ولكنها لا تفهم لغة باريس؛ وحسبك أنها تعلمت الفرنسية في بلاد الإنجليز! أما الذي خلفها فراهب متعبد غير متأبد، لا يتذمم مع رهبنته من اقتناء الخيل والخروج للصيد، وهو ليس بالرجعي الذي يلزم القديم، بل هو مجدد كأهل هذا الزمان، لا يحبس روحه في القوس والصومعة، ولا عقله في الكتب والصحائف، ولا يكد بدنه بالزرع

<<  <  ج:
ص:  >  >>