للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[اللغة العربية]

للأستاذ وليم مارسيه

رئيس المعهد العالي للدراسات التونسية

كان لجزيرة العرب في شعرها الجاهلي أدب من هذا النوع الذي نسميه كلاسيكياً، وذلك منذ القرن السادس المسيحي، في عصر لم تكن كبريات لغاتنا العصرية قد تجلت فيه بعد خصائصها. وإنما أعني بالأدب الكلاسيكي مجموعة من الآثار الأدبية تبدو لك معبرة عن قصد سام بعينه، وعن موقف خاص من مشكلة الحياة ومصير الإنسان، وعن ضرب من الشعور والفهم في لغة أحاطت بها كل العناية لوضع صناعة دقيقة راقية تامة الشروط. وكان أصحاب تلك القصائد القديمة ينطقون أحياناً بالحكم؛ لكنهم قليلاً ما كانوا يفكرون التفكير المنطقي أو يستنتجون. بل تميل نفوسهم إلى الفوران مع شرارات متتابعة من الصور الخيالية والأمثال، ومن صيحات الحب أو الغضب التي أمتزج فيها اللطف بالقساوة وأقترن العطف بالعنف، وإنما يجري تنسيق الألفاظ فيها طبق نظرية خاصة للجمال الفني يعتبر الإيجاز من أهم قواعدها. وأسمى غايات الشاعر أن يكون لكل بيت من أبياته من التفوق في أيجاز العبارة ومتانتها ما يجعل قوله تسير به الركبان فيصبح كالمثل عند قومه والناطقين بلغته، ومع ذلك فلم تكن تلك القصائد الشبيهة في قوة طابعها بضرب النقود خالية من بعض الغموض؛ إذ لكل لغة سرها الخاص بها. بفضله لا يخلو شعرها من هذه الميزة والطابع الخاص. . .

أما في العربية، فللعبارة من المتانة ما لا يبقى معه شيء يحجب مصدرها عن الناطق بها أو المستمع إليها، وبذلك كان اللفظ في اللغة العربية يذكرك بالأرومة التي اشتق منها. ولعل هذا الشعور العميق بالمصدر يفوق شعورك باللفظ عينه.

فالعبارة العربية إذن كالمزهر، إذا نقرت أحد أوتاره رنت لديك كل الأوتار، وخفقت وهي تبعث في نفسك زيادة عما لها من صدى خاص، وخفقت وهي تبعث في نفسك زيادة عما لها من صدى خاص، جميع الأصداء الخفية لكل ما ينتسب إليها من مفردات أو يلتحق بها، ثم تحرك في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور. وإذا نحن نظرنا إلى العربية من حيث الصناعة أدركنا في غير عناء أن سبك اللغة العربية

<<  <  ج:
ص:  >  >>