للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فيه للشعر ومادته كنوز زاخرة لا تحصى وموارد، فلقد كان نشوء هذه اللغة وتطورها مبنياً في أعظم قسط من مفرداتها على التداول بين المقاطيع المقصورة والمقاطيع الممدودة.

وإذن يجوز لنا القول بأن اللغة العربية ذات تقاطيع شعرية في ذاتها، فلا غرابة إذن أن يكون واضع علم النحو هو الذي ضبط تلك المقاطيع. أما الأوزان والتفاعيل الشعرية، فإنها مؤلفة من مجموعة متأثرة بالصيغ الصرفية. وإن لهذا الاستعداد الشعري العظيم آثاره القوية في توجيه الآداب العربية، فالرأي الغالب عند جميع الناطقين بالضاد في سائر العصور أن الأدب شعر قبل كل شيء. لذلك كان مؤرخو الآداب العربية ونقادها يقتصرون من آثارها على فن الشعر أو يكادون، فلئن كان قدامه قد أطلق على أحد كتبه أسم (نقد النثر)، فهو على ذلك لم يعالج في ثلاثة أرباعه غير الشعر. وهل الجاحظ قد روى معظم كلامه الذي أستشهد به في كتاب (البيان والتبيين) إلا عن الشعراء أو عن إخوانهم الخطباء؟ وإذا كان بديع الزمان قد تردد في الإذعان لما للجاحظ من فضل في الميدان الأدبي، فما ذلك كما قال، إلا لان الجاحظ وإن كان ناثراً بارعاً لم يكن إلا شويعراً، وإذن فمن الواضح أن الذي لم تكن له الأسبقية في صناعة الشعر ليس على حسب نظرية بديع الزمان لرجل الأدب حقاً. وعلى ذلك فقد أحرز النثر في القرون الثلاثة الأولى من الإسلام مكانه اللائق به، ووافق ظهوره - مثل ما هو الشأن عند سائر الأمم - ما حصل من تقدم في التفكير وطرائق البحث في المواضيع العلمية.

وفي الواقع كان أهل صناعة التفكير المنطقي الإستنتاجي والفقهاء والمشرعون على اختلاف مذاهبهم، هم الذين سبقوا غيرهم من الكتاب بتطور النثر على أيديهم. ويحكى أن (بلزاك) كان يحمل نفسه على مطالعة كتاب (القانون المدني)، فيراه على أسلوب لا يجاري في الوضوح والاقتصاد والدقة. ولا أضنني مخطئاً إن قلت: إن عدداً لا يستهان به من رجال الشرع الإسلامي وأئمة الدين كانوا في عدد كبار الكتاب. ألا نجد مثالا من ذلك عند الجاحظ، وهو أكبر كتاب القرن الثالث الهجري بلا منازع؟

فليس من شك أن الجاحظ كان قبل كل شيء من رجالات الفقه الإسلامي، فلقد أنصرف فيما لا يقل عن نصف تآليفه إلى البحوث الدينية. وهل ينكر أحد أن كتاب (الحيوان)، وهو أكبر تصانيف الجاحظ، خاضع في جملته لشئون توحيدية، إذ كان مصنفه يريد أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>