للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يستخلص من درس الطبيعة وبالخصوص من النظر في شؤون الحيوان ما يقوم حجة ناهضة لتأييد مذهب الاعتزال.

ومهما يكن من الأمر، فلا مندوحة من الاعتراف بأنه قد تكون في الثالث للهجرة نثر عربي يتصف بغزارة المادة وتنوع الأسلوب، صالح للرواية وللجدال النظري معاً، قادر على تتبع الفكرة والالتصاق بها في كل منعرجاتها، وعلى أداء جميع دقائق المعنى. ولم تمض مائة سنة حتى زال هذا اللون من النثر العربي المتصف بانتقاء اللفظ واختياره وبانسجام عدد النغمات، وقام مقامه النثر السجع.

وفي الحقيقة لم يكن هذا النوع من النثر المسجوع زائراً جديداً في اللغة العربية، بل كان عندها أسلوباً قديماً مألوفاً يرجع عهدها به إلى العصر الذي كان النثر فيه خطابياً أو شفاهياً على أقل تقدير إذ كان موجهاً في الحقيقة إلى السمع لا إلى النظر.

ويظهر أن هذا اللون من النثر المسجع قد قطع ثلاثة القرون الأولى من الإسلام يحيا حياة فاترة محدودة النطاق، فلم يكن يستعمله ألا نفر قليل من الدعاة، ولا تجد له من وراء ذلك أثراً الا السجعة أو السجعتين يضيفها مشاهير الكتاب إلى جملهم المرسلة.

فإذا ما حل القرن الرابع للهجرة أصبح هذا اللون من النثر هو الغالب وطغى على غيره وعم. وإذا به مستعمل في مواضيع من الأدب وأبواب لم يكن قد طرقها من قبل، بل هو يمتد إلى ما وراء المواضيع ويقتحم إلى ما أبعد من الأبواب فيصبح متصرفاً في كامل الآداب النثرية أياً كان لونها ومهما كان غرضها سواء أكانت من آداب الخيال والقريحة، أم من آداب التراسل، أو من كتب الأخلاق، أو من آداب الدواوين، أو في المواضيع التاريخية. . .

ولعل السبب في هذا التغلب القاهر راجع إلى ما كان مشهوراً في سائر الأوساط الأدبية من تفوق الشعر على النثر. وكان نثر ابن قتيبة، وقد ظهر منبسطاً منسجم المفردات مرسلا ينظر إليه عند المولعين بفن الشعر كما ينظر إلى فتاة الأسطورة الفرنسية (سالدريون)، فقد كانت تفوق أخواتها وأترابها جمالا وذكاء نفس؛ إلا أن بساطة أخلاقها وتواضعها كانا يظهرانها في مظهر الفقر والخصاصة فكانت لذلك منبوذة. وقد بدا للمغرمين بالشعر أن هذا النثر المنبسط المرسل في حاجة إلى زينة وحلي، وهكذا جعلوه نثراً مسجعاً

<<  <  ج:
ص:  >  >>