للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومع ذلك، فأنه يجمل بنا ألا نشدد الحكم على النثر المسجوع فهو الذي أمد العربية بعدد من جواهرها الأدبية، وهو الذي أكسبها آثاراً فيها من جودة الصناعة ودقة النقش ما يجعلها مثالا تطبيقياً لقاعدة الفن المطلق الخالص، أو ما يعرف عندهم بالفن للفن. . . ولا يمكن مع ذلك نكران العراقيل الخطيرة التي انجرت من هذا النثر للعبارة الصحيحة الكاملة الموفية بحق المعنى بالقياس للنثر وجوهره. ولا يمكن أن نغفل عما كان لهذا النثر من سيئ الأثر على الأسلوب، فقد جر له الفقر وحمل الكتاب على الاقتصار من أساليب الكتابة على الجمل القصيرة من شتات السجع، فأفضى بعدد منهم إلى التضحية بالمعاني واللب في سبيل العناية بالشكل والأسلوب.

ولكن هذا النوع من النثر قد انقضى اليوم عصره وزال سلطانه. فلقد عادت الحرية المطلقة إلى النثر بفضل نهضة الآداب العربية التي بدأت منذ ثلاثة أرباع قرن تقريباً

وفي هذا الباب ذكر بعضهم مراراً عديدة ما للتأثيرات الأجنبية من فضل على هذه النهضة سواء من حيث الأسلوب وفن التعبير، أو من حيث تجديد اللون الأدبي في ذاته، واختيار المواضيع، وهي عوامل لا يمكن نكرانها، ولكنها لم تكن لتؤثر لو لم تصادف رغبة دفينة في الانبعاث، وشوقاً إلى إحياء تراث عظيم قد وقف سيره: تراث القرنين الثاني والثالث من الهجرة. ذلك أن البشر والشعوب لا يقبلون من التأثيرات والعوامل في باب العبقرية إلا ما كان ملائماً للخلاصة الخالصة من عقليتهم مسايراً لما لها من حركة وتوثب. وباختصار لا يقتبس الناس من غيرهم ولا الشعوب من بعضها إلا ما كان حياً في قرارة أنفسهم متوثباً للوجود.

وهاهو ذا اليوم النثر العربي قد تهذبت حواشيه واتضحت آياته وتم تجديده على أيدي الجبلين الأخيرين من الكتب، وبفضل ما بذله هؤلاء من جهود متواصلة، وما صبروا عليه من جد وعمل، فأصبح هذا النثر أهلا لأن يكون أداة تعبير لحضارة عصرية. وبلغ هذا المستوى من الرقي الذي به يتم تأليف الآثار الفنية الخالدة. وإنما نعني بالآثار الفنية الخالدة آثاراً لها من قوة السبك ومن الامتلاء بالحقائق البشرية ما لا تنال منه الترجمة إلى اللغات الأجنبية أو تذهب به؛ (فدون كيشوت) لمؤلفه (سرفانتاس) وكتاب (الحرب والسلم) لـ (تولستوي) وكتاب (كيم) لـ (رويارد كبلنغ) كلها كتب قد حافظت في نصوصها الفرنسية

<<  <  ج:
ص:  >  >>