للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الحديث ذو شجون]

للدكتور زكي مبارك

أوهام أدبية تخلقها الحوادث - أسرار الجزع على باريس - الأدب هو سفيرنا في الشرق - الهجرة إلى الريف - ابدأ بنفسك - الأحزاب السياسية والأدبية

أوهام أدبية تخلقها الحوادث

للحوادث العنيفة تأثيرٌ شديد في تلوين الحقائق والأباطيل، وفي خلق الآراء والأضاليل. . . والمرء حين تصدمه الحوادث، يتلفت ليرى كيف صار إلى ما صار إليه من بؤس وشقاء، وكيف استهدف للمعاطب وتعرَّض للأرزاء، وذلك هو الفرق بين اليقظ والغافل من الرجال. وحكاية (السمكات الثلاث) في كتاب (كليلة ودمنة) تؤيد هذا الرأي، إن كان يفتقر إلى تأييد

أقول هذا، وقد قرأت في هذه الأيام كلمات نفيسة لجماعة من أدبائنا في تعليل الهزيمة التي مُنيتْ بها فرنسا، وهم يكادون يُجمعون على أن تلك الهزيمة ترجع إلى ما درَج عليه الفرنسيون بعد انتصارهم في الحرب الماضية من إيثار الدَّعة والسلامة والإقبال على الخلاعة والمجون

والأدباء الذين قالوا هذه الكلمات لم يقولوها إلا لغرض شريف، وهو تحذير أمتهم من عواقب البطالة والفراغ، ومآثم الترف واللين. والأديب ينتهز الفُرص ليضرب لأمته الأمثال

ولكن تلك الكلمات النفيسة وقعتْ فيها أغلاط تستوجب التصحيح

فهل من الحق أن فرنسا كانت فسقتْ عن أوامر الأخلاق؟

هل من الحق أن باريس لم تكن إلا ملاعب صبابة ومدارج فُتُون؟ هل من الحق أن الأندية الفرنسية لم تكن تعرف غير قول السوء ولغو الحديث؟

تلك أوهام يقول بها من لم يعش في فرنسا زمناً يسمح بالتعرف إلى أخلاق أولئك الناس، ليدرك المستور من شمائلهم الصَّحاح. تلك أوهام يقول بها من يعرف فرنسا بالسماع لا بالعِيان

ولو كانت فرنسا كما وصفوا، لكان من المستحيل أن تملك السيطرة الأدبية والحربية في تلك الأزمان الطوال التي سبقت محنتها الدامية في هذه الأيام السود

<<  <  ج:
ص:  >  >>