حين انتقل المنفلوطي إلى رحمة ربه قوبل أدبه بعاصفة شديدة من النقد، واتجهت المعاول الحادة إلى تحطيم بنائه الراسخ في دولة الأدب، حتى ظن الكثيرون أن هذا الصرح الناهض سيخر منهدما في أمد قريب، دون أن يجد الدعائم الواقية من السقوط، وكنت تجد من يقولون عن مصطفى أنه أديب يعني بالديباجة الصافية، والأسلوب الرائق، دون أن يقدم للقارئ فكرة حية أو معنى جميلا. فإذا قلت لهؤلاء إن مقالات الكاتب الكبير لا تعدم الفكرة الحية، والرأي الصائب غير أنها كسيت ثوبا جميلا من سلاسة اللفظ وإشراق التركيب، وجدتهم يواجهونك بنقد آخر فيقولون: إن الكاتب العاطفي قد وقف بأسلوبه عند تصوير البؤس والحرمان، وما يدفعان إليه من كآبة موحشة، ودموع وزفرات، وكان عليه أن يصور من الحياة جانبها الباسم الوضئ، فيرسم لقارئه لوحات مرحة توشيها البهجة والطري والابتسام!! كأنما كان لزاما عليه أن يتنكر لعواطفه الإنسانية فيضحك ويغرد في مجتمع بائس فقير مريض. . وربما تحذلق ناقد ثالث فادعى أن أدب الكاتب تافه ساذج رغم ما يسطع فيه من إشراق، لأنه إذا ترجم إلى لغة أجنبية فقد رونق اللفظ، وبهجة التركيب، وظهر المعنى هزيلا تافها يتسم بالضعف والسطحية والإسفاف، ونحن نعلم أن كل أثر يترجم إلى غير لغته - ولو كان كتاب الله الكريم - يفقد لا محالة بعض ما يتسم به من الروعة والتأثير، فلماذا نحاسب المنفلوطي العظيم على أمر لا حيلة له فيه، إلا أن تكون ممن يتصيدون المثالب تصيدا مغرضاً ثم يلصقونها جزافا بالبررة الأبرياء.
إن أكبر دليل على قوة المنفلوطي وإبداعه، هو خلود أدبه، فقد مر ما يقرب من ثلاثين عاما على وفاته، وما زالت كتبه ورواياته تطبع وتكرر طبعاتها الواحد تلو الواحدة، ومازال الشباب يجدون في (نظراته) ما يغذي عواطفهم الجائعة، ويروى مشاعرهم الصادية، كما يلمسون في رواياته البديعة سحراً أخاه يستولي على النفوس، ولا أكاد أعرف أديبا لامعا ممن عاصر المنفلوطي ومن جاء بعده لم ينتفع بأدبه، حتى وصل إلى القمة على نبراس بيانه، بل إن التلاميذ في المدارس والمعاهد والكليات، يضلون السبيل إلى الأدب الرائق