في مساء يوم من أيام سنة ١٩٢٠ دخل الأديب الفرنسي جاك ريفير على صديقه الشاعر العظيم بول فاليري، فرأى أمامه صورا مختلفة لقصيدة أنشأها، أو قل لقصيدة كان ينشئها. فاختلس صورة من هذه الصور، ثم خرج فنشر هذه الصورة في مجلة من المجلات الفرنسية الكبرى.
وهذه القصيدة هي (المقبرة البحرية) ويجب أن تعلم أن بول فاليري لا يتمأثراً من آثاره الفنية وإنما يتركه. وهو يفسر لنا هذا حين يتحدث إلينا في بعض ما كتب من الفصول، بأن الشعراء وأصحاب الفن في العصور القديمة، لم يكونوا يتمون أثراً من آثارهم، وإنما كانوا يعملون فيه ينقحونه، ويهذبونه، ينقصون منه، ويضيفون إليه، ويلائمون بين أجزائه، يبتغون الكمال ما وجدوا إلى ابتغائه سبيلا. حتى إذا أكرهوا على تركه أسلموه إلى النار أو أسلموه إلى الجمهور. فالنار والجمهور عند بول فاليري وعند أصحاب الفن الأقربين سواء. كلاهما يميت الأثر الفني بالقياس إلى مبدعه لأنه يختص نفسه بهذا الأثر فيحرقه تحريقاً ويقطع الصلة بينه وبين صاحبه، ويجعله ملكاً لنفسه، يتمثله كما يشاء أو كما يستطيع ويذوقه، ويفهمه كما يريد، أو كما تمكنه ملكاته الخاصة من الفهم والذوق. وبول فاليري حريص على هذه السّنة الفنية القديمة، فهو لا يتم كما قلت قصيدة من الشعر، ولا فصلا من النثر، وإنما يمضي فيه مصلحاً مهذبا، ساعياً إلى هذه الغاية القريبة التي لا تدرك وهي الكمال. حتى تضطره الظروف إلى أن يدع قصيدته أو فصله أو كتابه لصديق مختلس كجاك ريفير أو لناشر ملح، أو لأي ظرف من الظروف التي تذيع آثار الشعراء والكتاب، وتخرجها من أيديهم إلى أيدي القراء.
وكذلك فرضت هذه القصيدة في صورتها المعروفة على صاحبها فرضاً، ولعله لو خير لاختار صورة أخرى من هذه الصور التي كانت بين يديه، ولكنه نظر ذات يوم، فإذا المجلة الفرنسية الجديدة تنشر له قصيدة (المقبرة البحرية) فلم يكن له بد من التسليم والإذعان.
على أن من العسير جدا أن تظفر في التاريخ الأدبي الفرنسي، بقصيدة كثر حولها الحوار