وأشتد فيها الجدال، وتشعبت فيها الخصومة، كهذه القصيدة التي لا تزيد على أربعة وأربعين ومائة بيت. فقد انفق النقاد الفرنسيون أعواماً يدرسونها، ويحللونها، ويلتمسون معانيها، وأغراضها، ومظاهر الحسن ودخائله فيها. ثم لا يتفقون على ذلك بل لا يتفقون على شيء من ذلك، يل يبلغ بهم الاختلاف أقصاه. فإذا بعضهم يرفع القصيدة إلى أرقى منازل الآيات الشعرية الخالدة وإذا بعضهم ينزل بها إلى حضيض السخف الذي لا ينبغي الوقوف عنده ولا الالتفات إليه. وإذا الأمر يتجاوز المجلات والصحف الأدبية إلى الصحف اليومية الكبرى، ثم يشتد الخلاف وتنظم الخصومة حتى يضطر ناقد من كبار النقاد إلى ان يبدأ بحثا دقيقاً وتحقيقاً بعيد الأمد، فيختار قطعتين من هذه القصيدة، ويعرضهما على الأدباء والنقاد المعروفين يسألهم عما يفهمونه منهما، وما يرونه فيهما من الرأي، ويدعوه ذلك إلى أن يسألهم عن أصل من أصول الفن الشعري، ظهر أنهم لم يكونوا يتفقون عليه بحال من الأحوال، وهو الوضوح أهو ضرورة من ضرورات الشعر الجيد، أم هو شيء يمكن ان يستغني عنه هذا الشعر؟ وإذا شئت الدقة والجلاء فقل أيجب أن يكون الشعر الجيد واضحاً جلياً يفهمه من قريب من سمعه أو قرأه، أم يستطيع الشعر أن يكون جيداً وإن حال الغموض بينه وبين فهم القارئين والسامعين. ولا يكاد يبدأ هذا التحقيق حتى يعود الخلاف حول القصيدة وصاحبها كما كان حاداً عنيفاً متشعباً. وكان بول فاليري في أثناء ذلك قد انتخب عضوا في المجمع اللغوي الفرنسي. فيثير انتخابه حقد الحاقدين وحنق المحنقين، ويزيد الخلاف حدة وعنفاً. وتستطيع أن تقول غير مبالغ ولا مسرف أن المثقفين الفرنسيين جميعاً قد شغلوا بهذه القصيدة وصاحبها أعوام ١٩٢٧ و ٢٨ و ٢٩
وانتهى أمر هذه القصيدة إلى السوربون، وما أقل ما تعنى السوربون بشعر المعاصرين، وإذا أستاذ من أساتذة الأدب فيها هو مسيو جوستاف كوهين يتخذها موضوعا لدرسه في تفسير النصوص الأديبة، وإذا هو يتخذها موضوعاً لكتاب سماه محاولة لتفسير المقبرة البحرية. كل هذه الحركة العنيفة والشاعر صامت لا يقول شيئا، ساكن لا يأتي شيئاً، أو هو لا يقول ولا يأتي شيئاً يمس هذا الخلاف العنيف حتى اضطر صاحب التحقيق الذي أشرت إليه آنفاً أن يكتب إليه ينبئه بأن كثرة الذين أجابوا إلى ما ألقي إليهم من الأسئلة يعترفون بأن لقصيدته معنى ولكنهم لا يتفقون على هذا المعنى، وإنما يختلفون اختلافا شديداً في