تحصيله، ويسأله أن يبين ما أراد ليقطع الشك ويزيل الخلاف، فلا يجيب الشاعر ويضطر كاتب آخر إلى أن يطالبه في صحيفة من الصحف الكبرى بأن يبين للناس ما أراد أن يقول في هذه القصيدة، ليظهر من أخطأ من النقاد ومن أصاب، ويصفه بالكبرياء، والحرص على أن يغيظ النقاد، ولكنه على ذلك كله لا يجيب حتى إذا ظهر كتاب أستاذ السوربون، نظر الناس، فإذا الشاعر قد قدم بين يدي هذا الكتاب بمقدمة بديعة ممتعة، يصفها بعضهم بأنها مثيرة للدوار، لكثرة ما تشتمل عليه من المعاني والآراء في وضوح لا يكشف الحجاب عنها كل الكشف، وفي غموض لا يريح القراء من التأمل وإطالة البحث والتفكير. فإذا قرأت المقدمة البديعة الممتعة المثيرة للدوار، لم يتبين فيها القارئ جواباً لهذه الأسئلة الملحة التي ألقاها النقاد على الشاعر يتمنون عليه فيها أن يبين لهم ما أراد، وإنما يجد القارئ في هذه المقدمة آراء موئسة من الوصول إلى تحصيل المعاني التي أراد إليها الشاعر حين نظم قصيدته. فهو يقول مثلا: إن الناس يسألونني ماذا أردت أن أقول؟ فأنا لم أرد أن أقول شيئاً وإنما اعمل شيئاً، ورغبتي في هذا العمل هي التي قالت ما يقرئون، وهو يقول مثلاً إن الأثر الفني الذي يصدره الشاعر أو الكاتب أو غيرهما من أصحاب الفن لا يكاد يخرج من يد منشئه حتى يصبح أداة من الأدوات العامة يصرفها الناس كما يريدون أو كما يستطيعون. ومعنى ذلك أن القصيدة إذا أذيعت بين الناس، فلكل واحد منهم أن يفهم منها ما أراد أو ما استطاع. فإما ما أراد الشاعر فأمر مقصور عليه حين نظم، ولعله قد نسيه أو انصرف عنه إلى غيره من المعاني فلا ينبغي أن يسأل عنه ولا أن يطالب بتبيينه للناس.
وأظرف وأطرف أن الشاعر يثني على الكتاب الذي يفسر قصيدته فيقول: انه قرب هذه القصيدة إلى الشبان من تلاميذه، وأحاط بخصائصها التي تتصل بما فيها من الموسيقى والانسجام. ولكنه يقول: أوفق الأستاذ الشارح إلى تحقيق المعاني التي قصد إليها الشاعر أم أخطأه هذا التوفيق؟
كل هذه الآراء وآراء أخرى للشاعر العظيم في هذه المقدمة الممتعة إن لم تبين المعاني التي أودعها قصيدته فهي تبين شيئاً آخر أظنه أقوم وأجلّ خطراً من هذه المعاني، وهو مذهب الشاعر في فن الشعر، وما ينبغي له من الارتفاع عن هذا الوضوح الذي يفسد الفن افساداً، ويقربه من الابتذال، فهو يرى مثلاً إن جمال الشعر يأتي من أنك تحدد اللذة الفنية