في نفسك، كلما حددت قراءته ومن أنك تستكشف في القراءة الثانية من فنون الجمال ما لم تستكشفه في القراءة الاولى، بل تجد في كل قراءة فنوناً جديدة من الجمال لم تجدها في القراءات التي سبقتها، وأنت لا تجد هذه اللذة المتصلة المتنوعة إلا لأنك خليق أن تستكشف في كل قراءة معنى جديداً يثير في نفسك شعوراً جديداً بالجمال، وهو يرى مثلاً أن للشعر صفات تعصمه من الموت أو تعصمه من الموت القريب، وهذه الصفات تتصل بوزنه وقوافيه وبهذه الصور الخاصة التي لا تجدها في النثر. وموت الأثر الفني عنده يأتي من فهم الناس له، فأنت إذا قرأت كتاباً وفهمته فقد قتلته وقضيت عليه. فهناك إذا جهاد عنيف بين القارئ والمقروء، فإذا فهم القارئفقد غلب. وإنما الأثر الفني الخليق بهذا الاسم هو الذي يغلب قارئه ويعجزه، ولكن دون أن يضطره إلى اليأس والقنوط. ومن هنا يرى شاعرنا العظيم أن النثر بطبيعة تكوينه أقرب إلى الموت وأدنى إلى الفناء، لأنه أقرب إلى الفهم، وأدنى إلى الهضم، لا تعصمه هذه الدروع المتقنة التي نسميها الوزن والقافية، والموسيقى والصور.
فإذا أضفت إلى هذه المقدمة ما كتبه شاعرنا العظيم في مواضع مختلفة، وظروف مختلفة حول الشعر والنثر والأدب عامة استطعت أن تلخص مذهبه في الشعر الخالص أو في الشعر العالي كما يقولون. فالشعر عنده كلام، ولكنه كلام ممتاز، وامتيازه لا يجب أن يأتيه من معناه وحده بل، يجب أن يأتيه من صيغته قبل كل شيء، فحقيقة الشعر إنما تلتمس في صيغته وشكله، تلتمس في وزنه الذي يجب أن يبهر السمع ويؤثر فيه، تلتمس في انسجامه الذي يجب أن يثير في النفس لذة الموسيقى، أو لذة أرقى من لذة الموسيقى لأنها تمس العقل والشعور والسمع جميعاً، ثم تلتمس في صوره التي تروع الخيال وتروع معه الحسن أيضاً ثم تلتمس قبل كل شيء وبعد كل شيء في هذه الصفة التي لا أدري كيف أسميها أو أحددها، والتي تضطرك إلى البحث والتفكير وإلى جهاد ما تقرأ في غير ملل ولا يأس.
وطبيعي بعد أن ثار هذا الخلاف العنيف الطويل حول هذه القصيدة أن تتجاوز حدود فرنسا، ويعنى بها النقاد الأجانب كما عني بها الفرنسيون، كما يعنون بكل ما يصدر هذا الشاعر من الآثار. فقد ترجمت هذه القصيدة أربع مرات في اللغة الإسبانية، وثلاثاً في اللغة الإنجليزية، وثلاثاً في اللغة الألمانية ولكن الغريب أنها ترجمت في اللغة الفرنسية نفسها