أثر البيئة في الإنسان ومجتمعه وعلومه وفنونه من النواميس التي اهتم العلم الحديث بكشفها وتتبع مظاهرها والرجوع إليها في شتى الدراسات. وأثر البيئة في أدب كل أمة على إطلاقه واضح مشاهد؛ بيد أن لكل أديب بيئة خاصة داخل البيئة العامة التي تحيط به وبغيره من أدباء أمته، ولهذه البيئة الخاصة أثر بعيد في تكييف عبقريته وتوجيه ميوله وصبغ نظرته إلى الحياة وتكوين فهمه للأدب، ولهذه البيئة في أكثر الأحايين فضل توجيه عبقريته إلى الأدب دون غيره من الفنون والحرف الإنسانية.
فالوراثة لها أثر في فن الأديب، لاشتراكها في تكوين مزاجه وميوله، وذلك الأثر الوراثي ملحوظ في أدب شلي وبيرون من شعراء الإنجليز، بل في حياتهما إذ عاش كل منهما ساخطاً قلق المقام مضطرباً بين البلدان مساجلاً المجتمع حرباً لا تهدأ، وقد كان كلاهما منحدراً من أسرة أرستقراطية عرفت صفات الجماح والتمرد في غير واحد من أسلافها. وللوراثة أثرها الواضح في أدب أبن الرومي الذي جاء لانتمائه إلى الروم مخالفاً أدب غيره من فحول العربية، في النظرة إلى الحياة والطبيعة، وفي استقصاء المعاني وتوليدها.
ولتكوين جسم الأديب، بين الصحة والمرض والكمال والنقص والوسامة والدمامة أثره كذلك في أدبه، فالأديب السليم الجسم يكون صافي المزاج معتدل النظرة إلى الحياة، والأخر المعتل الصحة المنهوك بالأوصاب، كالمعري وأبن الرومي في العربية، وبوب وسويفت وجراي في الإنجليزية، يكون ضيق العطن أوقاتهم النظرة إلى الحياة أو كثير النقمة على معاصريه شديد الشغب معهم. وقد قيل قديماً إن للأدب ضريبة على محترفه يتقاضاه إياها من ذات جسمه أو ذات نفسه، فلا تكاد ترى أديباً إلا محروباً أو شقياً أو معسراً، ولعل فقدان الأديب لبعض ما يتمتع به سواه من بهجة الحياة من دواعي إرهاف حسه وصرفه إلى التأمل وعطفه إلى الأدب، ولعل المعري لولا عماه وانحباسه عن متعات الدنيا على ذلك الوجه، لما حفل بالتفكير في الأرض والسماء وأصل الخلق ومصير الإنسان وهلم جرا.