كنت أقرأ اسم محمد عاكف بين أعلام الأدب التركي الحديث، وكنت لا اعرف ألا طرفاً من أخباره وأشعاره. فلما سافرت إلى استنبول منذ سبع سنين، وكان عاكف قد هاجر إلى مصر، عرفت من سيرته وأدبه ما حببه إلي وشاقني إلى لقائه. فلما عدت إلى مصر بادرت إلى زيارته، وكان من سعادة الجد حينئذ أن ألفيته على مقربة مني في حلوان نازلاً في كنف الأمير عباس حليم باشا رحمه الله
ذهبت إلى داره، فطرقت الباب رجل ناهز الستين اشمط ربعة قوي البنية، عليه سيما الحياء والتواضع. وجلست فتحدثنا قليلاً، فافتتحنا عهداً من المودة المؤكدة والصداقة المخلصة
وكان صديقي حيياً، نزر الكلام، كثير التفكر، طويل الصمت، نزاعاً إلى العزلة، نفوراً من المجامع؛ فتوفر حظي من لقائه والأنس به، قلما زرته فلم ألفه في داره
وكان أنسه أن أزوره أو يزورني، فنفرغ للحديث نصرفه بين الماضي والحاضر، ونمزج فيه الجد بالفكاهة. ونطوف به في أرجاء الأدب والتاريخ، ونتعرف بها أحوال المسلمين. وكان إذا أنس بالمجلس انطلق في الحديث وتبسط واستزاد المحدث بحسن استماعه واهتمامه. فإذا قاسمنا مجلسنا غيرنا صمت حياء أو انقباضاً، أو إصغاء أو إنكارا؛ فإذا سألته لأشركه في الحديث هز رأسه متجاهلاً، أو ابتسم أو أجاب موجزاً، ثم راجع صمته. فإذا انفض المجلس أبدى لي رأيه مخالفاً أو موافقاً، ساخطاً أو راضياً
وكان احب شيء إليه أن نلتقي في عشايا الصيف، فنطوف في حلوان نتعطف في شوارعها كما تتعطف بنا شجون الحديث، فلا ننتبه لمكاننا حتى نخرج من ابنيه المدينة فنرجع إليها، ويلهينا الحديث حتى ننتهي إلى طرفها الآخر. وكان قوياً على المشي محباً له لا يذكر الدار ألا أن شكوت إليه التعب، فيشكني عائداً إلى داره أو داري لنقطع الحديث بشرب الشاي.