الشعر أعلى وأدق تعبير للحياة وقد وصفه أحد شعراء الإفرنج بأنه (لآلئ الفكر)، وهو يتصل بخياله وأوزانه بالتصوير والموسيقى اتصالاً وثيقاً، فلابد من الحس المرهف للحكم عليه، ولابد من (الذوق)، وقليلون جداً من يتذوقون الشعر و (يحسون نبو الوتر)، وهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليد في كل عصر وفي كل جيل. ومهما كان من الأمر فإن التذوق درجات تتفاوت وتختلف باختلاف الأمزجة، والتمرس بالآداب المختلفة، والخبرة والاستعداد الشخصي. فالشاب المنعم الذي لا يعرف متاعب الحياة ويجهل حب البنين، ليس في مقدوره أن يحس لواعج الخزن وعولة الحياة في رثاء ابن الرومي أو الهذلي لبنيه، ولا يفرق بين غناء العود وأنينه، وهو لا يستمع إلا بأذن صماء إلى بكاء الطير في الدوح، ونحيب البلبل في الغاب، وحنين الجمال في البيداء
حنينها وما اشتكت لغوبا ... يشهد أن قد فارقت حبيبا
إن الغريب يسعد الغريبا
والشعر في اعتقادي كالحبة التي أودعها الخالق قوة هائلة مركزة تركيزاً عجيباً مادياً وروحانياً؛ فمن الحبة تخرج الحياة، ومن حدودها الضئيلة تنبت وتتفرع وتنتشر الشجرة بظلها وجناها، فليس في مقدور كل أديب الإحساس بتلك (الهيولي) الساحرة الماثلة في بيت من الشعر. . . في غضون كلمات معدودات. . . وليس في مقدور كل إنسان أن يرى جمال الحقيقة وبهاءها، وفتنة الحياة وفجيعتها، وقوافل الإنسانية البائسة الصامتة المنكسة الرءوس والأعلام، وهي تطل من البيت والبيتين. . .
وقد بكى شعراء العرب أطلال المنازل التي كانت شاهد حبهم وحياتهم في عصر من عصورها، في لحظة من لحظات السعادة الزائلة، فلم يبك أحدهم الحياة في أوسع آفاقها وجناتها الخاوية مثلما بكاها البحتري وهو واقف (بين يدي الإيوان) وبين يدي الله. ولم يندب أحد بعد امرئ القيس الطلل البالي وسكونه. ووحشته بعد الأنس والحياة والحركة والضوضاء وبهجة الألوان، والوجوه والظلال والأشباح، كما ندبها البحتري في قوله: