[كيف يعظون]
للأستاذ عباس محمود العقاد
أيام الحوادث الفادحة هي أيام العظات البليغة لمن يحسن استخراجها من حوادثها ثم يحسن التعليل بين مقدماتها وعواقبها والحرب أبلغ العظات
لأنها تمتحن النفوس فتثير فيها الشكوك وتقلقل فيها دعائم الإيمان فهي في حاجة إلى اليقين والاستقرار
ولأنها ترين على القلوب بالغموم وتلعج فيها الأحزان فهي في حاجة إلى الترفيه والتأسية والعزاء
ولأنها تكتظ بالشواهد والمثل وأسباب الخبرة ومجامع العبرة فهي في حاجة إلى من يحسن التعبير والاعتبار
رأيت مثلين من أمثلة العظات العصرية هما اللذان بعثاني إلى كتابة هذا المقال: أحدهما مسيحي والآخر إسرائيلي، وكلاهما من مبتكرات الوعظ (العقل التاريخي) الحديث
جاء المثل الأول في مقال بصحيفة (المانشستر جارديان) الأسبوعية لواعظ يصف تجاربه في الحرب الماضية قال:
كثيراً ما وعظت في أثناء فترات الغداء بالمصانع فكانوا يلقونني برفق وإكرام
ولكني في بعض الأيام لقيت رجلاً غاضباً محنقاً وإن كان مؤدباً في مسلكه يقول لي: ما هذه الجرأة منك على الوعظ باسم إله المحبة والرحمة وهذه الحرب الخبيثة تطحن الناس؟
فقلت له: إنك يا أخانا لقاس على الأقدار. . . فهبك في مكان القدر فماذا عساك كنت صانعاً بالدنيا؟. . . لا أحسبك كنت تخليها من الخطيئة لأنك بهذا تهدم تكوين النفس الإنسانية باعتبارها نفساً مريدة مكلفة ذات حرية ومشيئة. . . فإن لم تصنع هذا فماذا أنت صانع؟
قال: على أية حال كنت لا أدع إنساناً يألم في حياته لجريرة غير جريرته وذنب غير ذنبه
فأجبته قائلاً: آه! يالها من حياة مخيفة تلك التي تريدها. فماذا تنوي أن تصنع بالأمهات مثلاً؟ أتريد من الأم إذا ذهبوا بابنها إلى الموت أو ذهبوا بابنتها إلى العار أن تمضي في طريقها ضاحكة راضية وهي تقول: لا يعنيني! فالذنب ذنب غيري؟
(إن الدنيا التي تريدها لتكونن دنيا خلواً من الآباء والأمهات والأصدقاء والقديسين والأبطال