للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[إلى أخي النازح إلى باريز!]

للأستاذ علي الطنطاوي

(هذا الذي أقوله لأخي، يقال لكل طالب مسلم يدرس في

أوربة)

(ع)

يا أخي!

لمّا دخلت (مسابقة البعثة) أمّلت لك بالفوز لما عوّدك الله من التوفيق والمعونة، وخفت عليك الخيبة لأن (الوزارة) لا تريد إلا مبعوثاً واحداً في (العلوم الرياضية) من سورية كلها، وأنى لك أن تكون ذاك الواحد؟

ولما ظهرت النتيجة، وكنت أنت الناجح في (فرع الرياضة)، وكنت ناجح في (الطبيعة) أيضاً، حمدت الله على هذه المنة، وذهبت أستعجلك بالسفر.

ولما عزمت أعددت لك ما تريد وأنا فرح مستبشر مسرور

كنت مسروراً لأني أعلم أنك ذاهب تطلب العلم، وتخدم الوطن، وتقوم بالواجب.

ولكن لم يكد يتحقق الأمر، ويأزف الرحيل، الباخرة الفخمة (ماربيت باشا) رابضة حيال المرفأ (في بيروت) تسطع أنوارها وتتلألأ، وألقي نظري على هذا البحر الهائل الذي يمتد في الفضاء أسود مثل الليل، حتى يغيب في السماء، أو تغيب فيه السماء. . . لم أكد أرى ذلك حتى أدركت الحقيقةالواقعة، وعلمت أنك مودع نازح، فغلبت علىّ العاطفة، وفاضت نفسي رقة وحناناً.

لم أستطع أن أودّعك، ولم أقوَ على رؤيتك وأنت في الباخرة، ماخرة بك عباب أليمّ، تنأى بك عني، حتى تصير نقطة صغيرة على شاطئ الأفق، ثم تنحدر إليه، وتختفي وراءه، وتختفي أنت معها، وتصبح في نظري عدماً، لأني لا أحس لها وجوداً. .

والوداع - يا أخي - جماع آلام الحياة وأساسها ومصدرها، وأشد ألوان الوداع وآلمها وأمرّها وداعٌ في البحر، ذاك الذي لا يطيقه ذو قلب. .

ودعتك وداعاً عادياً، ولبثت في مدرستي ألقي درسي وأنا هادئ الجوارح ساكن الطائر،

<<  <  ج:
ص:  >  >>