مما لا يكاد يخفى على الباحث المحقق أن أدق فترة في التاريخ الإسلامي هي التي بدأت باغتيال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتولي عثمان أمر الخلافة بعده. ذلك أن تيار الإسلام الزاخر قد أخذ بعد مقتل عمر يتحول عن مجراه الذي كان يندفع فيه بالخير والهدى والسلام على عهد الرسول صلوات الله عليه وصاحبيه إلى اتجاه آخر. وكان الإسلام الذي اعتز بإسلام عمر وتهدّى في سيره قد انقلب يعتسف الطريق بعد أن انقلب هذا الخليفة العظيم إلى ربه وعلى أن هذه الفترة على ما وصفنا، فأنها لم تؤرخ على ما يجب أن يكون عليه التاريخ الصحيح، وذلك أن كل مؤرخ قد كبَّل فكره بما وضعه السلف من قيود، ووقف عندما خطوه من حدود فلا يبحث بعلم ولا يفكر بعقل. وكان أثقل تلك القيود هو ما قرروه من عدالة الصحابة جميعاً، حتى جعلوا الطلقاء في مرتبة المهاجرين، والمؤلفة قلوبهم في منزلة الأنصار المخلصين، والمنافقين في مقام الأتقياء الصالحين.
وعلى ذلك جرى الخلف وراء السلف يتبع بعضهم بعضاً فلا بصر ولا بصيرة معتمدين على مجرد النقل عنهم، منصرفين عما يقضي به العقل والمنطق في نقد ما وصل إلينا منهم.
إنه لا يمكن للمؤلف المحقق أن يؤرخ هذه الفترة الدقيقة إلا إذا تزوّد بزاد كبير من مواد التاريخ، وحرر عقله من رقّ التقليد، واستعان في النقد والتحليل بنظر بعيد وأن يسبر الوقائع كما يقول ابن خلدون. بمعيار الحكمة وأن يقف على طبائع الكائنات ويحكم النظر والبصيرة في الأخبار).
ومما يجب على من يؤرخ هذه الفترة أن يقف على طبائع الجاهلية عامة وما كان من نزاع وتخاصم بين بني أمية وبني هاشم خاصة، وأن يدرك أن ما كان بينهما في الجاهلية لم يطفئ الإسلام جذوته، ولم يخفف الهدى المحمدي حدته، وان يميز بين الذي آمنوا إيماناً صادقاً من الذين أسلموا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.
هذا ما يجب على كل من يريد أن يؤرخ هذه الفترة الدقيقة تأريخاً صادقاً، ومن يفته شيء من ذلك فإن عمله يخرج ناقصاً وتاريخه يظهر عقيماً وإن سمى بين العامة تاريخاً!!.