شده القوم، ونظر بعضهم إلى بعض، ونهض الكاهن الوقور ذو اللحية المرتعشة يضرب في غَبْشَةِ الصبح، متكئاً على عكازه الذي أحنته وأحنتْ صاحبه السنون، ولم يكد يتسم ذروة الجبل حتى أشرقت ذُكاء، فاختلط ذهب أشعتها بفضة لحيته، فزادته رهْيةً، وزاده البعد وقاراً، وملأ بهامته السامقة وطيلسانه القشيب، قلوب العسكر، وعيون القادة، ألغازاً وأسراراً. . .
عاشت ذيتيس في كنف بليوز قانعة راضيةً، لا يعنيها من هذا العالم الرحب إلا الجنين الحبيب الذي يتقلب في أحشائها، فتتقلب معه أكبر الآمال.
ومضت شهور. . . ووضعته غلاماً بكاءً كثير الصخب، يضرب الهواء برجليه الصغيرتين، فكأنما يضرب المشرقين والمغربين، وينظر في السماء العميقة بعينيه الزرقاوين، وكأنما يبحث في أغوارها عن جده. . ومجده! وترى إليه أمة وتبتسم!
وشبّ الغلام وأيفع؛ وتحدَّثت إلى أمه العرَّافات والكاشفاتُ الغيب أنه سيكون محارباً عظيماً، تتحدث بذكره الركبان، وتتعطر باسمة المحافل في كل زمن ومكان؛ وأن لا بد من رحلةٍ به إلى الدار الآخرة - هيدز مملكة بلوتو - حيث تستطيع الأم غَسلَ ابنها في أمواه ستيكس، نهر الخلود الزاخر، الذي أودعته الآلهة أسرارها، ونظمت فيه شعراء الأولمب أشعارها واشتهرت بركاته في العالمين.
حدثنها أنها إذا غسلت أبنها في أمواه ستيكس، فانها تكسب جسمة مناعةً ضد الموت، وحِفَاظاً من الفناء؛ لأن جلده يصبح كالدرعِ المسرودة من حديد، لا تنفذ فيه السهام، ولا يؤثر فيه طعن القنا، ولا ضرب المشرفيات البيض.