نعم مجلس نادر! وندرته في طبيعة الغرض منه، وشخصية الداعي إليه، وقيمة الجالسين فيه؛ كان الغرض منه إصلاح ما بين أخي طه وبيني، وإصلاح ما فسد من ذات البين بين صديقين شيء في طبع هذا الأدب المعاصر نادر؛ وكانت الشخصية الداعية إليه هي الآنسة الجليلة (مي)، وشخصية (مي) في عصور الشرق الأخيرة نادرة؛ وكان الجالسون فيه الدكتور طه، والأستاذ مصطفى عبد الرزاق، والدكتور أحمد زكي، والأستاذ محمد عبد الله عنان، وتهافُتُ هذه العبقريات المختلفة على شعاع لطيف من ذكاء المرأة الشرقية المثقفة نادر؛ وكان البهو المترف الذي سَمرنا فيه قد انسجم بأثاثه ونظامه وألوانه وألوان وضوئه مع ذوق الآنسة الشاعرة، فكان نمطاً من الحديث الصامت أذى المشاعر وألهم الأذهان في الحديث الناطق!
قالت الكاتبة النابهة وقد انتظمنا حولها عقداً كانت هي واسطته:(ارجو أن تكونوا شخصاً واحداً. . . . .) فقال لها الدكتور طه: (نعم وتكونين أنت روحه) وعلى ظَرف هذا الخطاب، وبراعة هذا الجواب جرى سقاط الحديث. وكانت الآنسة تُصَرف الكلام وتساجل هؤلاء الأعلام ببديهة حاضرة ولقانة عجيبة، فمثلتْ لي صورة من صور أولئك الأدبيات اللاتي أنشأن باستعدادهن للأدب مجالس في عهوده الزاهرة، كسكينة ابنة الحسين، والولاة ابنة المكتفي بالله، ومدامُ دِرَمْبُوييه، ومدام جوفرين، وأضرابهن ممن وقفن بين اللغة والبلاغة، وبين الأدب والذوق، وبين الفن والسمو، ثم وشين ثقافة عصورهن بألوان شتى من أناقة المعرض، وجمال الأداء، وحسن المبادهة، فقدرت في نفسي مبلغ ما تفيده المرأة المثقفة في مناهج الأدب ومظاهر الفكر وقواعد السلوك وأوضاع العُرف، وقلت: مساكين نحن! إذا ظفر أدبنا بهذه المجالس، فأَنَّي تظفر مجالسنا بهذه المرأة؟
لست بطبيعتي وتربيتي رجل صالون ولا حديث مجلس، لأن المجامع
المختلطة التي تدفع الحياء عن الذهن، وتُذهب الخوف عن اللسان،
وتجعل أطراف الحديث في متناول كل جالس، أبَتْها علينا التقاليد، فأنا
أردك حتى في هذه الجهة أثر هذه المجالس في علاج هذا النقص