تشقق الحديث عن صور شتى من لَفتات الذهن النشيط، ثم مسحت (مي) بيدها الساحرة على ما كان بين الصديقين فاذا الماضي يعود كله، وإذا الحاضر يذهب كله. وعلاقة هذين الصديقين علاقة نشأت مع الصبي واستحارت مع الشباب وتوثقت على الزمن، فلما نال منها العهد المجرم الذي نال من كل شيء جزعت الآنسة الريمة فيمن جزع، وظلت تتحين المناسبة لسفارة الوفاق والمودة حتى تم لها ذلك ليلة الأمس!!
وللانسان ماضٍ من الأمكنة والأزمنة والأشخاص لا يستطيع مهما جدا أن يسقطه من حياته: فمسقط الرأس، وملاعب الطفولة، ومسارح الهوى، ومغاني الأحبة، وغفلات العيش، ورفقة الحداثة، لا ينسخها في ذاكرتك ما يمر على عينك من ضخامة العمران وبسطة السلطان، وسورة المنصب، وزحمة المنافسة، وصور الوجوه، وتنوع العلائق
ألْهُ عنها بالحاضر إذا شئت، وأثبت نظرك في وجه الغد إن استطعت، فانك صائر ولابد إلى الذكرى بعد الأمل، ولائذ بأمن الماضي من خوف المستقبل؛ وحينئذ تجد هذه المراحل السعيدة واضحة في خيالك، مشرقة في نفسك، تجدد عمرك المفقودة، وتحدد زمانك المبهم، وتفيض على جفاف قلبك شعوراً هادئاً لذيذاً باستحضار ما غيبت من لذة، واستذكار ما نسيت من سعادة
كان حسب صديقي حسبي لحظة من الذكرى تعيد عازب الحلم وتكسر عادية الجدل، ولكننا كنا وكانت مصر يومئذ تكابد محنة من الطغيان العاسف أوهنت الأعصاب، وحللت الروابط، ومدت بين الناس أسباب العلل
أخي طه!
لقد تعانقنا عند اللقاء كان لم تكن جفوة، وتناقلنا الحديث في المجلس كأن لم تكن خصومة، وتمنت ربة الدار أن يكون بيننا عتاب فلم نجد مائلاً في النفس إلا أن كلينا صورة من شباب الآخر وقطعة من وجوده!
تلك كانت جناية العهد البغيض كما قلت: أفرطفيه الجور حتى نسينا العدالة، وتنكرت المعرفة حتى اتهمنا الصداقة، وران الشك على القلوب حتى حال بيننا وبين الحقيقة. فالحمد لله الذي أظهرك على الكيد، وأظفرك بالكائد، اعادك، وأعادك موفور الكرامة إلى موضعك عزيزتي الآنسة مي!