نشر مكتبة القاهرة سنة ١٩٥٢. ص ٣٧٦ من القطع المتوسط
الدكتور زكي المحاسني
عناية الأدباء المحدثين بأدب لغتهم القديم دليل على أصالة ذلك الأدب. وأيما أمة أطرحت أصول أدبها فإنما هي قد جزت جذورها، وأنكرت أنسابها، فضاعت بين سمع الأرض وبصرها. وما شيء كان أجدر بالعناية في أدبنا العربي من الشعر الجاهلي، لأن فيه نبعة التراث الروحي لأدب الأمة العربية. وهذا سر عكوف الأقدمين على دراسة هذا الشعر يجمعونه ويمحصون فيه، ويروون قصائده، ويروقون رواياتها. ولقد عاق التلهف على دراسة الشعر الجاهلي في الفترة الحديثة ما طلع به بعض الأدباء من إنكار لصحة هذا الشعر، وما زعم الزاعمون من أن هذا الإنكار مرده دراسات لبعض المستشرقين. وإن الصواب الذي لا أرتاب فيه أن هذا الشك ذاته قد سبق الناس إليه الأصمعي وقد بان لي أن من عند الأصمعي كان مولد هذا الشك حين اختلفت لديه أبواب الرواية في الشعر الجاهلي، واضطراب الأسانيد في بعض أنحائه. وقد ترك السبيل مفتوحة أمام ذوى الشك في الأدب خلو النصوص الجاهلية للشعر من التقييد الحجري. فلو أن شعراء المعلقات بديلاً من أن تكتب لهم معلقاتهم على رقاق الغزلان بماء الذهب وتعلق على الكعبة قد نقشوها في الحجارة، لما تركوا سبيلاً لذلك الشك والارتياب الذي كدر علينا في فسحة من الزمن
نقاء الشعر الجاهلي
إن الدكتور طه حسين حين أنكر الشعر الجاهلي سنة ١٩٢٦ كان كمن جاء إلى أسرة فيها الزوج الوقور والأم الحنون والولد المطيع، وهم جميعاً في خير وطمأنينة، فقال للأبوين أن ابنكما هذا مدخول النسب. قالها قولة جارفة فأقض على الأسرة مضاجعها، وهدم بناءها. ولم تكن أداته أكثر من شك وارتياب. ومن المحمود للدكتور طه حسين بعد ذلك أنه اعتلى