وليست هذه الطفلة بالشاذة، فإن كل طفل على غرارها، حتى ولديّ أراهما أحفى بأمهما منهما بي، لأنها لا تنسى أن تزودها بما يحبان، وإن كنت أنا المتعب المكدود والذي لا يزال يسعى ويشقي ليسعدا.
وأحسب أن الإنسان يبدو على حقيقته في طفولته، أي قبل أن يصبح إنساناً مصقولاً منجورا أو مهذباً كما نقول، والطفل أثرة مجسدة، يحب ويكره، ويقبل ويدبر، تبعاً لما يلقي منك. وقد يكون أبوه أحنى عليه، وأعمق حباً له، وأعظم شغلاناً به، ولكنه لا يلاعبه، ولا يعني بأن يحشو له جيوبه باللطائف المشتهاة، ولا يجئه كل بضعة أيام بلعبة، فلا يعبأ به الطفل أو يجعل إليه باله، على حين تراه يتعلق بأهداب صاحب لأبيه لأن لا ينسى حين يجيء في زيارة، أن يحمل لهذا الطفل ما يسره أو لأنه يشغل نفسه معه بضع دقائق بالهذر الفارغ. وكان صديق لي يقول:(إنك سيئ الظن بالإنسان) فكنت أبتسم ولاأجيب، وأنتقل به إلى موضوع آخر استثقالاً لهذا البحث الذي لا يطيب للنفس في كل وقت، حتى لفتتني تلك السيدة الذكية إلى المظهر الحقيقي للإنسان، فدرسته في أبنائي، وانتهيت إلى أن كل ما في الإنسان من خير وفضيلة اكتساب وليس بطباع فيه؛ والطفل - قبل أن نعلمه خلاف ذلك - لا يعرف إلا نفسه، ولا فرق بينه وبين الوحش في الفلاة أو الغابة. وعجيب أن ينسى الإنسان أنه حيوان!؟! فهو يضرب أخاه، ويمزق له ثيابه، ويريق الحبر على أوراقه أو كتبه، ويحطم له لعبه، أو يتلفها، ويغضب أو يستاء إذا رآه يلبس الجديد قبله أو دونه، ويعذب العصافير والقطط، ويذوي الورود والأزهار، ولا يقف في العبث والإتلاف عند حد؛ ولا يدركه عطف على أحد، ولا يشعر برقة لإنسان أو حيوان. ولسنا نحن الكبار خيراً منه، وأنا لأحسن ضبطاً لأنفسنا، وكبحاً لأهوائها ونزعاتها، ولكنا نحتاج إلى الضبط والكبح لأن النزعات موجودة تلج بنا وتدفعنا؛ ولو أمنا العاقبة لأطعنا أهواء نفوسنا وأملينا لها فيها. ولو جمحت بنا لما نفعتنا اللجم والأعنة التي اعتدنا في حالت الاتزان أن نصدها بها عما تهم به. ونحن في كل حال نراقب ما هو أوفق لنا وأصلح، والأمر في الأطفال أوضع وأبين، لأن اللجم الكابحة ليست هناك، أو لأن التدريب عليها ناقص، ونمو العقل مع التجربة يساعد على حسن استخدام اللجام، ورياضة النفس على طاعته