للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في تلك الأثناء حفا البرق في الصحاري، وامتدت شعله وخيوطه على حواشي جبل (سيناء) حتى ضوأت قلله وقننه، وكشفت ربوده ومصاده وشعافه، وحسرت عن جروفه وفلوجه وغيرانه، ثم أضاء البرق ولمع، ثم أضاء ولمع، وتلت ذلك أصوات تشبه الهزيم، وترقرقت ألوان الشفق الحمراء في كل ناحية حتى اصبح الأفق وردة كالدهان، فخيل إلى الشاعر أن هذه الأطواد التي تجاوره وتصاقبه لا تريده على فراقها، وإنما هي تريده على أن يستشرق بهذا القبس الشاعل الذي تراءى لموسى النبي في البادية الغلفاء، فلصق بمكانه وقال (لسافو): انه يكره الرجوع إلى (سلع)، وإن من احب المنى إلى نفسه أن يموت وعيناه تنظران إلى أضواء هذا القبس الذي ترمي به قلل (سيناء) الرفيعة إلى الصحارى والبوادي

ومازال البرق يضيء ويلمع على روابي (سيناء)، ومازالت الأصوات الخفية تتغاير في الأفق على مدى بعيد، ومازالت ألوان الشفق الحمراء تتفجر هابطة صاعدة، وريح النعناع تفغم الخياشيم حتى أحس (كريستيا) قداسة هذه الأرض، فخلع نعليه وركع بجوار قبر (هارون) النبي مصلياً وداعياً، منتحباً وباكياً!

لقد قال لها إن الجبل يناديني يا (سافو)، وكل جارحة من جوارحي تقول لي لا يجمل بك أيها الشاعر أن تغمض عينيك على السحب الصادرة في (سلع)! ثم رفع صوته وانثنى قائلا: إن الله قريب مني، وإني لأراه في هذا النور الذي يطفو على (سيناء)، وفي هذا الفتون الذي يراق على بادية (التيه)، بل إني لأسمع صوته في قسطلة الماء عند سفوح جبل (حور). لم يعد في هذه الحياة التي أخذتني خطوبها وكوارثها ما أخافه، وما احرص عليه، فالمجد الذي جنبني طيفه في ميدان (سلع) حيث يقتتل الناس أما زلفى (لقيصر)، وأما زلفى (لفروة ابن عمرو)، قد تمثل لي أحد هذه القنن الرفيعة بألوانه وأنواره وطيوبه ونغماته، وروحه الساكن الوادع، وشبحه المضيء، وجرسه العذب؛ إنه ليخلع على جسمي الذي قرسه برد العشية دفء نفسه لأموت محترقاً في سناه، فذلك امثل من موت يزحمني ظله الصادر عند رواميس (سلع)! ولان تحتويني هذه الأرض المقدسة افضل من أن تحتويني هذه الأرض التي لا تعرف القداسة!

وعبثاً كانت تصده عن ميوله ومطامعه، فلقد احب أن يموت على جبل (حور) كما مات

<<  <  ج:
ص:  >  >>