وقد كان عسيراً على الأخوين وقد برح بهما السير في الأخاديد والأغوار والهوات والأودية أن يستأنفا الرحلة في الأرض البراح، ومع هذا كله ما كانت (سافو) تستطيع أن ترده عن منازعه، فلما جاز الإخوان بعض الطريق وأوشك وادي (العربة) أن يتقلص ويغيب ترقرقت خيالة (سلع) في عيني (سافو) فذكرت زوجها الغطريف، وابتعثها التذكار على الوفاء له فقالت لأخيها:
- إنه ليجمل بك أن تدأب في سيرك حتى يطلع عليك (الأردن) أما أنا فلقد نذرت رجوعاً إلى (سلع) حيث الحق بزوجي الذي لم يترك سلاحه بعد!
وكانت لهجتها صريحة وصادقة، فلم يستطع (كريستيا) وهو الذي يعرف حبها لزوجها أن يعصى لها أمراً، فلحق بها إلى وادي (العربة) وكان لا ندحة لهما عن الرجوع معاً إلى جبل (حور) ثم ينحدران إلى الدير ويلحقان (بسلع)!
وبعد طوافٍ عنيفٍ في الأرض الغطشاء، فرع الشقيقان في جبل (حور) فنزلا بضلعه الشرقية وقدر لهما وهما على المرتفع الشاهق المطل على الطريق، أن يريا إلى وادي (العربة) الجميل وإلى صحراء (التيه) فوقف (كرستيا) خاشعاً أمام هذا المنظر الرائع حتى لقد جنب شعوره أن يحلق في عالم آخر. وكيف يستطيع إحساسه الثائر أن يحلق في عالم آخر، وهذه الأرض المقدسة من (سيناء) ترعش في نظراته وتطفو على جوارحه وتلهب ذكائه وتذكره بماضي هذه البطحاء التي استمعت إلى صوت الله وهو يتحدث إلى نبي!
خيل إلى (كريستيا) وقد وطئ كرة أخرى حضيض الجبل الملهم أن الدنيا طويت له واجتمعت عنده فأنّى تلفت تمثلت له قلل جبل الشراة الرفيعة يغمرها موج دافق من رواء المساء وبهاء السماء، وأنّى استقر أخذته المشاهد الموحشة وعليها من الروعة والجلال والتذكارات ما ليس يجده الشعر المهذب في خيال رواته وقائليه، بل لم يكن يستطيع وقد عرضت له (سيناء) وصحراء (التيه) وقيعان وادي (العربة) وجروفه أن ينزع من صدره صورة هذه الدنيا العبقة بعطر النبوة والوحي
ولما أوشك أن يرقى القنة التي عليها قبر (هارون) أرخى الشفق عليه ظلاله الساجية فاستراح بجوار القبر المقدس، ووقفت (سافو) حياله، فما فاتها وقد لصقت به أن تسمع صليل جوفه، وأن ترى إلى عينيه وقد غابتا في عقيق (سيناء)!