للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بعده - لا يرجو جاهاً ولا مالاً، ولا يخاف سجناً ولا رهقاً.

أخوه الأصغر زكي بك زعيم كبير من زعماء الشام، ولي الوزارة مراراً، ورياستها (بالوكالة) مرة، وهو محام معروف، وأخوه الآخر كان طبيباً كبيراً، وأهله ذوو ميسرة وغنى، ولكنه لا يرزأ أحداً شيئاً، ولا يجرؤ واحد منهم - على دعوته إلى طعام أو منام.

ولقد حدثني الأستاذ زكي بك أنه إلا لأنه كان كبير اخوته، مات أبوه وخلف له هذين الصغيرين، فباع ماله كله وأنفق عليهما، حتى استكملا الدرس في استنبول، وكانت باريس تلك الأيام، ثم أبى أن يأخذ منهما قرشاً واحداً. وإذا عرضا عليه هدية، أو دعواه دعوة، غضب أشد الغضب، فتركا ما يريدان لما يريد، فعاش أغنى الناس - لا لأنه كان أكثرهم مالاً، بل لأنه كان أقلهم حاجة - ولا فرق بين أن تكون لك كنوز قارون - وأموال فاروق، فتنال كل ما تطلب، أو أن تكون مطالبك هينة يسيرة، فلا تحتاج إلى مال كثير لتنالها، ومن هنا قال من قال، إن السعادة هي القناعة.

قنع من الحياة بأيسر ما تحفظ على صاحبها الحياة، رغيف يسد جوعته، وقماش يستر عورته. وكان إذا طلب الناس المصايف. . واتخذوا لها الدور، وأعدوا لها العدة، حمل عباءته وعيبته، ومشى. . . مشياً إلى (نسيمه) درة الوادي، وجوهرة العقد في جيد بردى، فوضع العباءة والسفرة في المغارة، فوق (العين الخضراء) ثم نزل فدار بالقهوات - وجالس الجماعات، فوعظ ونصح وأمر ونهى، لا يرزأ أحداً طعاماً ولا شراباً ولا مالاً، ولا يدخل جوفه من عند أحد شيئاً، ثم عاد إلى المغارة فأكل فيها ما استطاع أن يعده لنفسه، رغيفاً ولحماً، أو خبزاً وزيتوناً، أو شاياً وكسرات يابسة من خبز الأمس، وحمد الله ونام. لا يخشى السرقة على مال، ولا الخسارة في تجارة، ولا تحقق الشر من عدو، ولا خيبة الأمل في صديق.

وهذا هو عمله في دمشق: ينزل قبل أذان الفجر إلى جامع بني أمية، فيصلي ويقرأ أجزاء من القرآن ثم يبقى في الجامع - يمر على الحلقات، فإن وجد ما يعجبه شجع المدرس بكلمة، وإن أحس غموضاً وضح، أو إيجازاً شرح - أو مللاً من السامعين نفس عنهم بنكتة. ويعرف هذا المدرسون له، فلا يأبونه منه، وإن أبى بعضهم سلقهم بلسان حديد، فحط من كبرياء، وألان من إباءه - حتى كان شيخنا الشيخ صالح التونسي، (مدرس الحرم

<<  <  ج:
ص:  >  >>