ويحضر المحاظرات العامة فيسلك في الجامعة والمجمع، مسلكه في الجامع. حضرته مرة في المجمع العلمي العربي. من نحو ثلاثين سنة، وقد جاء محاضر لبناني فتكلم في الحضارة الجديدة، وأنه ينبغي في رأيه أن نأخذ كل ما فيها، وذم لباسنا ومدح لباس القوم. ولما انتهى وأقبل الناس (أعني المتزلفين المنافقين) يهنئونه، صاح الشيخ في آخر القاعة، بصوته الذي كان يغلب عشرات مكبرات الصوت، ولهجته المعرقة في العامية:(ولك! الحمار حمار ولو لبس بدلة وبنطلون. والإنسان إنسان ولو حط جلال. . .) فانصرف الناس بكلمة الشيخ، وتركوا المحاضرة في مكانها.
ويدور في الأسواق - يراقب الناس ويدرس أحوالهم وهو يعرف أكثر أهل دمشق، وآبائهم وأجدادهم - وتمر به المرأة المحجبة فيعرفها من أي أسرة هي. أمضى سبعين سنة وهو في هذه المراقبة، فإن رأى حقيراً رفعته الأيام بلا سبب فتكبر - رماه بكلمة كالقنبلة فعرفه قدره وجرأ الناس عليه. وإن رأى دجالاً انخدع به الناس فحسبوه عالماً، حط منه فصرفهم عنه. وإن أبصر جاسوساً أو ممالئاً للفرنسيين - صرخ:(الله يلعن الجواسيس والمنافقين). وإن نظر إلى أم ولدها وسخ - قال لها:(ولك! هاي الماي غسلي وجهه. النظافة من الإيمان). وإن رأى بائعاً يغش مشترياً، أو مشترياً يضايق البائع، أو شاباً يتحرش بالنساء، أو امرأة تتصدى للشباب، أو رأى معتدياً على آخر في جسده أو ماله، أقام القيامة عليه، فكأن البلد كلها مدرسة، والناس تلاميذها، وهو المعلم فيها!
وهو قاموس حي فيه تاريخ دمشق، وأنباء أحداثها، وأخبار رجالها ونسائها؛ حوادث رآها ووعاها، وناس عاشرهم وخبرهم. وله آراء في السياسة صائبات، وأنظار ثاقبات. وله كلام مغطى تعوده أيام الاستبداد الأولى، أيام السلطان عبد الحميد، حين كان الجواسيس يخالطون الناس في أسواقهم ومجامعهم، ومدارسهم وطرقهم، وحين كان للجدران آذان، وكان يأخذ الناس في أوساط الليل من بيوتهم - بلا محاكمة ولا تحقيق، إلى حيث لا يدري أحد - وكان الناس يستمعون له، ولا يجرءون على معارضته.
وكان يتوسط في الخصومات، ويعرض لحل المشكلات، ويقضي بين الناس بلا حكمة ولا مرسوم جمهوري، فيسمع من الخصمين، ويوازن بين حجج الفريقين، ثم يقضي. فكم ألف