الخالد حتى كأنه لا يحس بها! ومنارة المسجد التي تذهب إلى السماء ناحية الأزلية والخلود، نحواً من خمسة وستين متراً جعلها التعصب برجاً للكنيسة بما أقيم في جناباتها من نواقيس وما علاها من الصليب. إلا أن كل هذه المظاهر لم تنزعني من الجو الذي أعيش فيه، حتى لقد صعدت المنارة وأذنت فيها بصوت سمعه من كان معي للعصر، ثم أديت الصلاة في داخل المحراب بعد أن فتح لي خاصة! وأظن أن رفيقي، وهو أستاذ فاضل مستعرب قرطبي، ظن بي الظنون! وعلى كل فقد أحترم عاطفتي ووقف هو وآخرون من المتفرجين على مبعدة!.
وبجوار المسجد مقر الخلافة والخلائف الذي صار الآن مقر كبير رجال الدين. وقد نفس عني قليلاً ما تذكرته من قول شارلكان وقد زار المسجد سنة ١٥٢٦ حين رأى الكنيسة وسطه: لقد (بنيتم هنا أثراً كان يمكن أن يبني في أي مكان، وأفسدتم أثراً وحيداً في العالم!).
والمسجد ومقر الخلائق يطل كلاهما على (الوادي الكبير) التي لا تزال مياهه تجري في استحياء! وقد عبرت القنطرة على هذا النهر إلى الجهة المقابلة التي كان العرب يسمونها أو الريف في الجهة المقابلة. وبهذا النهر تنتهي المدينة القديمة.
بعد هذا خرجت من المسجد وزرت محلة اليهود على مقربة جداً منه؛ وبها منزل صغير يحمل الآن رقم ١٨ رأى أبن ميمون الفيلسوف اليهودي الأشهر فيه النور؛ وبها معبد من معابدهم بني بعد أبن ميمون، وإن كانت الحكومة أقامت في مدخله لوحة تذكارية لمرور ٨٠٠ عام على ولادته (١١٣٥ - ١٩٣٥م) لماذا لا تقام لوحة أخرى تذكارية لأبن رشد معلم وشيخ أبن ميمون!
حسبي من زيارة قرطبة هذا المسجد، وحسبي أني عشت فيها فترة لذيذة ومؤلمة في جو إسلامي خالص حتى كنت أؤدي فيها الصلاة في وقتها في أغلب الأحوال في الفندق الذي نزلت فيه.
انتهى الآن وأنا على سفر إلى الجزيرة، جزيرة طريف، لعلي أستطيع منها العبور إلى طنجة ومراكش، ثم أعود إلى الأندلس لرؤية غرناطة والله المستعان.