زوجه وأبنه، فطاب عنهما نفساً وبقيا بمكة ولم يلحقا به إلا بعد سنة أو قريباً منها. وصهيب بن سنان يروي ابن هشام حديثه لما أزمع الهجرة فيقول: إنه لما أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك. والله لا يكون ذلك! فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ربح صهيب، ربح صهيب.
هكذا كان ثبات النبي وصحبه على المبدأ وتضحيتهم في سبيله بالنفس والنفيس وصبرهم على الأذى. أما نحن فإن الواحد منا يرى وجهاً من وجوه الإصلاح ويعتقد أن في الدعوة إليه ونشره وأخذ الناس به الخير كل الخير لأمته؛ ثم يعد العدة للتبشير به مؤكداً لنفسه ولمن يحيط به أنه جاد فيما يرى، صادق فيما يقول، قائم بالدعوة مهما لقي في سبيلها، باذل في ذلك من وقته وماله ونفسه. وما هو إلا أن يلتف فريق من الناس حوله وإلا أن يلوّح له بعض ذوي الجاه والسلطان بسيف المعز وذهبه حتى ينكشف ويتضاءل فيعود مَسخاً ليس له من الرجولة إلا الإسم؛ وليس له من ماضيه وما كان أعتزم وقدر وقرر إلا الذكريات التي تتراءى له صوراً وأشباحاً تألم لها نفسه إن كان لم يفقد ضميره بعد، أو لا يأبه لها ولا يباليها؛ بل ويسخر منها إن كان فقد مع رجولته الضمير الحر الحساس أيضاً!
هل نحن في حاجة لضرب الأمثال لهذا الداء الذي شرى فما أظن أن من السهل أن نطب له ونبرأ منه، أعني داء عدم الاعتداء بالمبدأ والتمسك به، مهما قامت العقبات وتعقدت الأمور ما دام في التمسك به خير وصلاح الأمة. المثل لهذا كثيرة؛ نجدها في الميدان السياسي، ونجدها في الميدان الاجتماعي، ونجدها في الميدان الاقتصادي؛ وأخيراً نجدها في الميدان الديني. لنلق نظرة على ما صدر من الصحف في هذه السنوات الأخيرة نجدها ملأا بالدعوات الحارة لمبادئ مختلفة رأى الدعاة إليها خيراً كثيراً في تحققها، وربما ألفت لجان لبعضها تفحصها وتشير إلى وسائل جعلها حقائق فعلية بدل أن تظل أماني تجيش بها الصدور وتلج بها الألسنة. ولكن ما هي إلا أيام أو شهور ونرى الدعاة قد استوعروا الطريق واستطالوا الشقة، أو رأوا فيما يدعون إليه ما ينفر رئيساً أو ذا جاه، في ترك ما حسبوه جرى منهم مجرى الدم من مبدأ أو فكرة ما يقربهم زلفى إلى هذا الرئيس أو ذي