اتساع الوعي القومي في نفوس المصريين والعرب تثب في عين المنكر إذا وازن بين ما كانوا عليه وبين ما صاروا إليه. كان الساسة الذين احترفوا الوصاية عليهم يفاوضون في أمورهم، ويعاهدون على مصيرهم، دون أن يحفلوا لهم برأي، أو يرجعوا إليهم بخيرة، وإن زعموا أنهم استشاروهم فأشاروا، وخيروهم فاختاروا! وهم اليوم يفاوضون تلك المفاوضة، ويراجعون تلك المعاهدة، ولكن الأمة التي وضعت المبادئ، وحددت المطالب، وأملت الخطط، وقدرت العواقب؛ فليس لمفاوض أن يقولها ما لن تقل، ولا الحاكم أن يريدها على ما لم ترد!
وهل نسيت يوم الجلاء في سورية؟ وكيف تنساه أذن الحي ولا تزال أناشيده وزغاريده تدوي في سمع الزمان؟ جلت جنود الاستعمار عن أرض سورية العزيزة، فاهتز العالم العربي اهتزاز الغبطة، واعتز اعتزاز النصر؛ وشعر كل فرد من أفراده، في مختلف بلاده، أن فريقاً من أهله تحرر من القيد، وأن جزءاً من وطنه تطهر من المغير؛ وأقبلت وفود الدول العربية تشارك دمشق في الاحتفال بإقامة العرش الأموي بعد أن خرت قوائمه وابتذل حماه؛ وقال العراق لمصر: ذلك يا أختاه هو الجلاء الذي يكشف الضر، والاستقلال الذي يرضي الحر، فمتى يكون لنا ولسائر أقطار العروبة مصير كهذا المصير يوم كهذا اليوم؟!
ذلك مثال من أمثلة الوعي القومي العربي تجلى في هذا الحادث الخطير صريحاً غير مشوب، وصحيحاً غير مزيف، فإذا وازنت بين موقف العرب من استقلال سورية، وموقفهم من استقلال شرقي الأردن، فلن يخامرك بعد ذلك شك في أن الأمة العربية الكريمة إنما تصدر عن وعي بصير، وتنقل عن شعور صادق.
فاوضت إنجلترا شرقي الأردن مفاوضة الند للند، ثم منحته الاستقلال التام، وعقدت بينها وبينه معاهدة الشرف والفخار، ثم رفعته من الإمارة إلى المملكة، واحتفل إخواننا الأردنيون بمبايعة أميرهم العظيم عبد الله بن الحسين ملكاً عليهم، فزاد ملوك العرب ملكاً، وزادت ممالك العروبة مملكة. وكان هذا النبأ العظيم عن هذا النصر الأعظم جديراً بأن يزلزل النفوس من الفرح، ويبح الحناجر من الهتاف، ويدمي الأكف من التصفيق، ويحشد جيوش العرب في ميادين عمان، ويدعو شعراء العرب إلى منابر عمان، ولكن هذا النبأ العظيم سرى به البرق، وتموج به الأثير، وكأنما ضرب الله على الآذان فلم تسمعه، وختم على