يضطروا إلى الموازنة بين الصديق والشقيق إلى حين وقرت في نفوسهم منزلة الأخ.
وعجزوا أن يحولوا عنها الأنظار، فكان كل همهم أن يعارضوها بمنزلة الصديق، وهيهات أن يبلغوا ما يريدون؟ فالأخوة رباط رباني صنعته يد الخالق، والصداقة رباط إنساني عقدته يد المخلوق، وإنما كثر التحامل على الأخ والتشهير به أكثر من الصديق، لأن الشقيق مظنة الإيثار والعطف، فكل هفوة تصدر منه فهي كثيرة الكبائر وأر الذنوب.
أما الصديق فمهما سمت منزلته فلن تستغرب منه الهفوات لأنه بوضعه الطبيعي أجنبي بعيد، ومن هنا سكت عنه اللائمون - إلى حد ما - واتجهوا باللائمة القارضة على الأخ الشقيق!
وما نقوله في المفاضلة بين الصديق والشقيق نقوله أيضاً في الموازنة بين الصديق والعشيق، فقد طاب لبعض الناس أن يرفعوا الصديق إلى منزلة العشيق فقال الحسن بن وهب: غزل الصداقة أرق من غزل العلاقة.
وقال آخر: النفس بالصديق آنس منها بالعشيق، وأمثال هذه الأقوال قد تجد جانباً من الرواج لدى العاطفيين البله، ولكنها تتبخر أمام التحليل النفسي العميق، فالعشيق في مرتبة دونها الصديق والشقيق معاً، فكيف نفهم هذا الكلام العجيب؟ ولقد خدع الشريف الرضي نفسه بهذه الأقوال المرتجلة، فانبرى يقول في صديقه مالا يقال في غير العشيق، ولا أدري كيف تقبل منه صديقه الأديب الشاعر أبو الحسن البتي قصيدته التي يقول فيها بدون مبالاة.
أغار عليك من خلوات غيري ... كما غار المحب على الحبيب
ولي شوق إليك أعل قلبي ... ومالي غير قربك من طبيب
أكاد أراب فيك إذا التقينا ... من الألحاظ والنظر المريب
وهي قصيدة طويلة تتجلى فيها غفلة الشريف إلى حد ما، وله من صفاء نفسه ورقة قلبه شفيع أي شفيع، ولعل من الأدباء من يوافق مذهبه كل الموافقة، وإن كنت وإياه على طريق نقيض!
وإذا كان الصديق في رأي ابن المقفع مفضلاً على النفس والشقيق، فإنه ينصح دائماً بالتؤدة في اختياره، ويدعو إلى التريث الزائد في اصطفاء الأصحاب، وكأني به وقد أدرك ما في