للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الطبائع الإنسانية من لؤم وغدر، فحرص على الامتحان العنيف حتى يتميز الخبيث من الطيب، فلا يختار العاقل غير من كان في درجة عالية من الكمال، ليكون أهلاً للفداء والتضحية من أجله إذا دعت الحال. وقد يسرف الكاتب في الحيطة والتؤدة إسرافاً يدعو إلى التملص من الصداقة بادئ ذي بدء، فهو يقول (إذا أقبل إليك مقبل فسرك ألا يدبر عنك فلا تنعم الإقبال عليه والتفتح له، فإن الإنسان طبع على ضرائب لؤم، فمن شأنه أن يرحل عمن لصق به، ويلصق بمن رحل عنه، إلا من حفظ بالأدب نفسه وكابر طبعه) وهذه الحيطة في البداية مقبولة معقولة، لاسيما وابن المقفع يرى أن الصداقة (زواج كاثوليكي) لا انفصام له، وهو لا يرى خلة أبشع من الهجرة والجفاء. ويعجبني جداً قوله في هذا السياق، (ولتعلم أنه لا سبيل لك في مقاطعة أخيك، وإن ظهر لك منه ما تكره، فإنه ليس كالمملوك الذي تعنفه متى شئت، أو كالمرأة التي تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك وشرفك، وإنما مروءة الرجل إخوانه وأخواته، فإن عثر الناس على أنك قطعت رجلاً من إخوانك، - وإن كنت معذراً - نزل ذلك عند أكثرهم فمنزلة الخيانة للإخاء، والملال فيه، وإن أنت مع ذلك تصبرت على مقارنة غير الرضى عاد ذلك إلى العيب والنقيصة، فالأنثاد الأنثاد والتثبت التثبت!!).

ولا يقتصر الحكيم الفارسي على إبداء رأيه في هذا الموضوع بل يلجأ إلى الافتراض والتعليل، ومع أنه لا يمثل الإطناب في القول فإن حرصه على تدعيم رأيه، يلجئه إلى الإسهاب والتكرار، ولا ينسى أن يضرب الأمثلة التطبيقية ليهلك من هلك بينه ويحيى من حي عن بينة. وفي كتاب كليلة ودمنة أقاصيص عديدة تدور حول هذه النقطة الهامة، وما أبرع عبد الله حين يقنعك بأقصوصة فرضية يختلقها اختلاقاً، فتقوم مقام ألف دليل، وتغنى غناء تاماً عن التحايل والتأويل؛ وإليك المثال.

قال الكاتب (إذا استضافك ضيف ساعة من نهار وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك) وهذا رأيه السالف في الاحتراس من الناس، ولكنه يتبعه بمثال فرضي يقطع به كل اعتراض، فيقول بعد ذلك (ولا تأمن أن يصلك من ضيفك أو بسببه ما أصاب القملة من البرغوث) ثم يسرد في إيجاز قصة وهمية عن قملة استضافت برغوثاً دون أن تعرفه، وأسكنته في فراش نائم سمين ثم أوصته أن يتريث فلا يلدغ النائم قبل أن يتأكد من رقاده،

<<  <  ج:
ص:  >  >>