للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولكن الضيف الأحمق يتسرع فيلدغ الرجل ويهب من فراشه مذعوراً ليبحث عن الجاني فيطير البرغوث، وتصدع القملة بجريرة ضيفها الأثيم) فأي عاقل يسمع هذا المثال الحكيم ثم لا يجعل آراء ابن المقفع دستوراً حكيماً يطبقه على نفسه فيتشدد تشدداً تاماً في اختيار الرفيق.

وقد يفهم القارئ من آراء ابن المقفع أنه يدعو إلى التؤدة والتريث مع كل إنسان وهذا ما يتضح جلياً مما قدمناه؛ ولكن يخيل لنا أن هناك فرقاً بين إنسان ربطتك به جامعة أو إدارة أو بلد، فلم يصل إلى سمعك من أخباره ما يسود صحيفته، ويسئ سمعته، وبين إنسان نجم أمامك فجأة فلم تعلم عنه ما يزين أو يشين؛ فالمبالغة في الحيطة مع الأول قد تكون تعنتاً لا مبرر له، ومع الثاني يجد ما يسوغها بل يفرضها فرضاً لازماً على كل عاقل. ولقد أبدع الكاتب حين أسهب في الحديث عن صداقة الجرذ والغراب، فقد اطلع القارئ على ما يجب عليه من التريث التام في قبول الصديق بادئ ذي بدء، حيث صور الغراب في صورة مستكينة ذليلة وقد وقف أمام الجرذ يخطب وده ويرغب في مصاحبته؛ وهنا يبرز عبد الله حيطة الجرذ ناطقة في قوله للغراب، (ليس بيني وبينك تواصل، وإنما العاقل ينبغي أن يتلمس ما يجد إليه سبيلاً، ويترك التماس ما ليس إليه سبيل، فإنما أنت الآكل وأنا طعام لك) ويطنب أديبنا الحكيم في هذا المعنى فيقول مرة ثانية على لسان الجرذ (إن العداوة التي بيننا ليست تضرك وإنما ضررها عائد علي؛ وإن المال لو أطيل إسخانه لم يمنعه من إطفاء النار إذا صب عليها. وإنما مصاحب العدو ومصالحه كصاحب الحية يحملها في كمه. والعاقل لا يستأنس إلى العدو الأريب) وما أظن بعد ذلك تهذيباً لمهذب وإرشاداً لمسترشد. ويجدر بنا أن نشير إلى أن ابن المقفع قد اختار الجرذ والغراب بالذات ليمحو ما قد وقر في بعض الأذهان من أن العداوة إذا وقرت في القلب لا تمحى منه، فهو يريد أن الإنسان بكياسته وحزمه قادر على أن يخلق من عدوه صديقاً مهما تغلغلت جذور البغضاء في قلبه، وهذه دعوة سافرة إلى التسامح الإنساني والرجوع إلى مبادئ الإخاء والتواد، فالمرء لا محالة مدني بطبعه، وإن خيمت في الأفق غيوم قاتمة من الإحن العاتية فعن قريب ستتبدد في هوج الرياح.

على أن حديث الغراب والجرذ لم ينقطع بعد، فقد شاء الأديب الكبير أن يجعل الحجة

<<  <  ج:
ص:  >  >>