حقيقتك التي تكمن وراء هذا الستار من اللحم والعظم في جوهرك مجرداً عن قوالب المادة، وما أضيق اللغة عن هذا النطاق الفسيح!
تراسيماكوس - ويحك! أو تريد أن تجعل مني رجلين، فرجل من مادة في إهاب من الجلد، ورجل مجرد خبئ وراء الأستار تراه أنت من دون صاحبه؟
فيلاليش - وأي غرابة فيما أزعم يا صديقي؟ أفتظن أن هذه الأجسام والأجساد التي تنبث في أنحاء الكون، والتي تدركها بواسطة الحواس، هي كل شئ؟ اللهم إن صح هذا لكان الإنسان كتلة من اللحم والشحم والعظام، وقل على أفكاره ومشاعره وشتى مظاهره حيوية العفاء، لأنها لا تسلك إليك سبيلاً من عين أو أنف أو أذن!! لا، لكل شئ حقيقة كامنة وراء ظاهره، ما في ذلك شك ولا ريب، فإن أدركك الموت يا أخي أفنى منك هذا الفرد الذي يحاورني الآن، هذا الشخص المعين الذي أراه وأسمعه، ماذا أقول؟ هذا التراسيماكوس، فلن يكون بعد الموت شيئاً مذكوراً، ستنحل مادته وستسلك ذراتها سبلاً شتى، فطائفة إلى شجرة تدخل في تركيبها، وطائفة إلى حيوان، وثالثة إلى صخرة تلقى في طاق الكوخ لتصد عن ساكنيه الهواء كما يقول شاكسبير، ولكن ليست هذه الشخصية إلا ظاهرة فانية مع الموت، ولها بطانة باقية إلى الأبد، ليست إلا قالباً صيغت فيه حقيقتك الخالدة. فالفرد منك ظاهرة مادية عارضة محصورة في أطواق الزمان والمكان، فلها بدء وخاتمة، وهي تشغل حيزاً من الفراغ، فأما سرك وجوهرك، أما الحقيقة التي اندست في مادتك فلا تعرف زماناً ولا مكاناً، فهي في الكون منذ الأزل، أرادت أن تثبت وجود نفسها، فتجسدت في الكائنات التي ترى، فهي لا تختلف في شخصك عنها في شخصي، أو في شخص هذا الطائر الذي تراه يخفق بين أطباق الهواء. . . فإن أدركت المنية سيفنى منك الفرد، وستخلد الحقيقة ممثلة في سائر الأحياء، لعلك الآن قد آمنت بما زعمته لك من أنك لن تكون بعد الموت شيئاً، وستكون كل شئ؟
تراسيماكوس - ولكن خلودي في أشخاص آخرين لا يساوي عندي جناح بعوضة، مادمت لن أحيا بشخصي هذا، فإن كان تراسيماكوس الذي يطارحك الحديث الآن، سيفنيه الموت، فسحقاً للحقيقة، إذ ليس لي في خلودها غناء.
فيلاليش - مهلاً! هب أنك خيرت في أن تعيش بعد الموت بشخصيتك التي تتشبث بها