كان اعتكافي كما قلت قرباناً لأبي العلاء؛ فأنا أعيش معه أكثر النهار في اللزوميات، أو في الفصول والغايات، أو في مسارح التأمل والتفكر. وكثيراً ما كنت أستغرق في ادِّكاره واستحضاره وأنا مستلق على العشب، فأتمثله وهو مضطجع على سريره يفكر، أو جالس على حشيَّته يملي، وكاتبه بين يديه، وأولاد أخيه من حواليه، وتلاميذه وزواره في صحن الدار يرقبون أن تشرق عليهم شمس المعرفة من غرفته. وكنت أتخيل الشيخ بين هؤلاء كائناً عجيباً يشع العلم طبعاً كما تشع الشمس النور، وتبث الزهرة العطر، وتعسل النحلة الشهد، فأسائل نفسي: هل أبو العلاء وأضرابه من عباقرة الفكر أفراد من نوع الإنسان؟ وإذا كان وجودهم دليلاً على قابلية هذا النوع لمثل الرقي، فلماذا كانوا من الندرة بحيث يعدون عدَّاً منذ وقع في سمع الزمان نبأ آدم؟ وهل يجوز أن يكون التفاوت بينهم وبين سائر الناس كالتفاوت بيني وبين هذه الحشرات التي تموج من حولي تحت وريقات هذا العشب؟
خلوت إلى أبي العلاء في هذا المعتكف شهرين شغلتهما بالفكر فيه والقراءة له والتأمل معه وكنت أشعر في خلالهما أني أعمق شعوراً بالكون، وأدق فهما للطبيعة، وأتم علماً بالناس، ولكني مع ذلك حاولت مراراً أن أكتب فلم أفلح! ذلك لأن الخواطر التي كانت تنثال عليً إنما كانت صدى لخواطر المعري أو اشتقاقاً منها أو اقتياساً بها. وكنت أجد في شعره أو نثره التعبير الجميل الصادق عن هذه الخواطر فلا أجد بي حاجة إلى مزيد. والاعتكاف بعد هذا ضرب من العبادة الصامتة يغنى بها الفكر عن الذكر، والاستغراق عن المشاهدة، والاستقبال عن الإذاعة
وأوفيت على تلك الحال بالنذر للشيخ، فودعته وودعني، وانسدلت بيني وبينه القرون العشرة؛ ثم عاد إلى قبره الجديد، وعدت إلى مقري القديم، ليستأنف هو راحة الخلود في سكون المعرة، وأستأنف أنا جهاد الحياة في زحمة القاهرة. فلما أخذت، على عادتي في الريف، أبسط رئتي للهواء النقي، وأرهف أذني للصوت الجميل، إذا الهواء منتن بزكم الأنف ويأخذ بالنفس، وإذا الصوت منكر يندب الأخلاق وينعى الشرف، وإذا النقائص والفواحش التي أخذها أبو العلاء على الناس متفرقين في الأمم والعصور، تتجمع كلها في زمن واحد وبلد واحد! وتلك كارثة خلقية تتضاءل بجانبها كوارث الحرب في الأموال