والحلاج ونقده نقداً فيه دقة وتعمق. فهو يرى أن غاية السعادة ليست إلا مجرد اتصال بين العبد وربه يحظى فيه الإنسان بضرب من الإشراق لا يصدران عن الله مباشرة، بل بواسطة العقل الفعال. وأما الاتحاد المزعوم الذي يقضي بأن يندمج الخلق في الخالق فغير مقبول عقلاً، لأنه يستلزم أن يكون الشيء واحداً ومتعدداً في آن واحد. ذلك لأنا لا نقبل أن نعد العقل الفعال فرداً واحداً في الوقت الذي نقرر فيه أنه محتو على كل النفوس الواصلة، كما لا نستطيع أن نسلم بفردية العارف في حين أنا نعترف باشتماله على حقيقة أخرى خارجة عنه. وانظر كيف يصوغ ابن سينا هذا الدليل. (قد يقولون إن النفس الناطقة إذا عقلت شيئاً فإنما تعقل ذلك الشيء باتصالها بالعقل الفعال وهذا حق. قالوا واتصالها بالعقل الفعال هو أن تصير هي نفس العقل الفعال، لأنها تصير العقل المستفاد، والعقل الفعال هو نفسه يتصل بالنفس فيكون العقل المستفاد، وهؤلاء بين أن يجعلوا العقل الفعال متجزئاً قد يتصل منه شيء دون شيء، أو يجعلوه متصلاً بكليته بحيث يصير النفس كاملة واصلة إلى كل معقول (وكلا الغرضين باطل)، على أن الإحالة في قولهم إن النفس الناطقة هي العقل المستفاد حينما يتصورونه قائمة). ويضيف ابن سينا إلى هذا:(إن قول القائل إن شيئاً ما يصير شيئاً آخر لا على سبيل الاستحالة من حال إلى حال ولا على سبيل التركيب مع شيء آخر ليحدث شيء ثالث بل على أنه كان شيئاً واحداً فصار واحداً آخر، قول شعري غير معقول، فإنه إن كان كل واحد من الأمرين موجوداً فهما اثنان متميزان، وإن كان أحدهما غير موجود فقد بطل الذي كان موجوداً).
فتصوف ابن سينا لا يختلف إذن عن تصوف الفارابي في شيء، وسيلتهما وغايتهما متحدتان. يقول البارون كارادي فو:(لا يبدو التصوف عند ابن سينا إلا في آخر المذهب كتاج له، وهو متميز تماماً من الأجزاء الأخرى؛ وابن سينا يدرسه دراسة فنية كأنه فصل من الفلسفة يشرحه شرحاً موضوعياً، وبالعكس ينفذ تصوف الفارابي إلى كل شيء، والألفاظ الصوفية منتشرة في كل ناحية من مؤلفاته؛ ونشعر جيداً أن التصوف ليس مجرد نظرية اعتنقها، بل حالاً نفسية). ونحن نسلم مع البارون أن تصوف الفارابي - على عكس ابن سينا - يعبر عن عاطفة صادرة من القلب، وحياة الرجلين تشهد بذلك، ولكنا نرفض من الناحية النظرية أن يكون ثمة فرق بين تصوف التلميذ وتصوف الأستاذ، كلاهما يعتمد