على أساس واحد، ويشغل مكاناً متعادلاً في مذهبيهما؛ وكل ما هنالك من تباين هو وضوح ابن سينا وطريقته التعليمية المنظمة التي يدرس بها المسائل على اختلافها. وأما الألفاظ الصوفية فقد لاحظنا آنفاً أنها أكثر لدى ابن سينا منها عند أستاذه.
إذا كان الفارابي وابن سينا بطلي الدراسة الفلسفية في الشرق، فابن باجة وابن طفيل وابن رشد هم أعلامها في الغرب. وبما أن البحث العلمي في الشرق أسبق منه في الغرب فإن أهل الأندلس مدينون لإخوانهم المشارقة بكثير من آرائهم ونظرياتهم. لذلك لم يكن بدعاً أن تقتفي المدرسة الفلسفية الأسبانية أثر المدرسة الشرقية، وأن نرى ابن باجة وابن طفيل مثلاً يتبعان خطى الفارابي وابن سينا. وكم يسوءنا أنا لا نعرف حتى الآن عن ابن باجة الشيء الكثير، فإن معظم كتبه قد باد، وما بقي منها لا يزال مخطوطاً وموزعاً بين المكاتب الأوربية. وكتابه الرئيسي وهو تدبير المتوحد لم يصلنا عن طريق عربي، ولو لم تحتفظ لنا المترجمات العبرية بأجزائه الهامة ما وقفنا على خبره. ويرجع الفضل في استكشافه إلى مستشرق إسرائيلي من رجال القرن التاسع عشر هو سلمون منك صاحب الفلسفة اليهودية والعربية ومترجم دلالة الحائرين إلى الفرنسية. وإذا اعتمدنا على ما نقله (منك) أمكننا أن نقرر أن نظرية الاتصال الفارابية قد نالت حظوة كبيرة لدى ابن باجة. وكتابه تدبير المتوحد قائم على إثبات أن الإنسان يستطيع الاتصال بالعقل الفعال بواسطة العلم وتنمية القوى الإنسانية. والفضائل والأعمال الخلقية جميعاً ترمي إلى سيادة النفس العاملة واستيلائها على النفس الحيوانية. وبالجملة يجب على المرء أن يسعى جهده إلى الاتصال بالعالم العلوي مشتركاً مع الجمعية أو منعزلاً عنها، فإن كانت الجمعية صالحة قاسمها في مختلف شؤونها، وإن كانت طالحة لازم الخلوة والانفراد. وهنا يبدو ابن باجة متأثراً بالصوفية المسلمين فوق تأثره بالفارابي، فإن الأخير لم يدع إلى الوحدة قط؛ ومن شرائط المدينة الفاضلة في رأيه أن تقود الأفراد إلى السعادة إن لم تصل بهم إليها. وكتاب تدبير المتوحد في جملته مستقى من مؤلفات الفارابي وابن سينا، اللهم إلا الجزء الخاص بنظام العزلة والانفراد فهذا تغلب عليه نزعة صوفية بحتة.
ومهما يكن فقد وضع ابن باجة الحجر الأساسي في بناء المدرسة الفلسفية الأسبانية وسار على نهجه ابن طفيل. وحياة ابن طفيل غامضة غموض حياة ابن باجة، ومؤلفاته ليست