بغداد، وعبد الرحمن الناصر وابنه الحكم في قرطبة، والعزيز بالله وابنه الحاكم في القاهرة. وإن في قصور بني نويه في الرصافة، وبني حمدان في حلب، وبني عباد في إشبيلية، لمنازل للوحي تنبأ بالقريض فيها من تنبأ، وبعث برسالة العلم منها من أرسل. وإنك لتذكر الوزراء والأدباء من أمثال ابن العميد، والصاحب بن عباد، ويعقوب بن كلس، ولسان الدين بن الخطيب، والقاضي الفاضل، فتذكر مجالي بالأدب ناظرة، ومغاني بالعلم عامرة، ومجالس كانوا فيها شموساً تدور من حولها توابعها تستمد الحرارة وتمد، وتقتبس النور وتقتبس.
وكان للمجالس الأدبية والعلمية في عصرنا الذهبي نفحات من الإلهام أيقظت رواقد العبقرية في ألوف من الأذهان الخصبة والقرائح الموهوبة فازداد بهم الأدب والعلم ازدهاراً وابتكاراً وكثرة.
كان للرشيد مجلس للأدب بلغ لألاؤه أطراف الإمبراطورية الإسلامية فعشا على ضوئه صاغه القريض ورواته حتى ضاقت عليهم بغداد بما رحبت، فاضطر يحيى بن خالد إلى امتحانهم في الشعر وترتيبهم في الجوائز، ليخفف من زحمة الأدباء عن عاصمة الدنيا في ذلك الحين، وقد عهد بذلك الامتحان إلى شاعره أبان اللاحقي فقام به
وكان للمأمون مجلس للعلم يعقد في دار الخلافة أيام الثلاثاوات من كل شهر؛ فإذا أقبل الحكماء والفقهاء مدت الموائد وقيل لهم:(أصيبوا من الطعام والشراب ثم جددوا الوضوء. ومن كان خفه ضيقاً فلينزعه، ومن كانت قلنسوته ثقيلة فليضعها. فإذا فرغوا أتوا بالمجامر فتبخروا، ثم خرجوا فدخلوا على المأمون فيدنيهم منهم خير إدناء، ويناظرهم أحسن مناظرة، حتى تزول الشمس فتصب الموائد ثانية فيطعمون وينصرفون.
وكان للصاحب بن عباد مجلس للشعر لا يغشاه إلا من حفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، ومع ذلك الشرط القاسي كان يجتمع على سماطه كل يوم ألف من رجالات الأدب والعلم والكلام. وبنى داراً فاجتمع له من قصائد التهنئة عليها ديوان شعر ضخم.
ونفق برذون لأديب من أدباء مجلسه فرثاه شعراء الحضرة بخمسين قصيدة. وقد ذكرت بذلك (مكسويني) حصان الدكتور محجوب ثابت، فإنه حين نفق من الهزال لم يظفر من شعراء مصر على كثرة ما ركبوه بالمزاح والهزل إلا بقصيدة واحدة لشوقي.